منيف الحربي
طوال تاريخ الطيران ظلّت الشركات الناقلة تكتب ملاحمها على الأرض وفي الأجواء، بعضها أكمل قرناً من الزمان وهو يحلّق مثل رواية مترعة بالجمال، وبعضها توارى تحت وطأة الظروف.
شهد العالم قصصاً تصعد إلى القمة بسرعة البرق، وأخرى تتبخر بين الغيوم تاركةً خلفها دروساً ثمينة في الإدارة والتخطيط والقدرة على التكيّف.
منذ فجر النقل الجوي، امتلأت السماء بالشعارات والألوان؛ بعضها صارت نجوماً لا تنطفئ، وبعضها انطفأت قبل أن تسطع.
كل شركة طيران هي حكاية حلم ورؤية وقرارات، نجاحات صنعها الطموح وسقوط سببته تفاصيل بسيطة.
خلقت بعض الشركات هوية راسخة رغم أنها وُلدت صغيرة لكنها امتلكت خيالاً ورؤية فحوّلت التحديات إلى محركات للنمو، بينما تعثّرت أخرى كبيرة لأنها قرأت السوق بعقلية الأمس.
من النماذج اللافتة تجربة طيران الإمارات التي تكمل بعد يومين 40 عاماً من التحليق والتألّق، حيث انطلقت أولى رحلاتها من دبي إلى كراتشي في 25 أكتوبر 1985م بطائرتين مستأجرتين من الخطوط الباكستانية التي قدّمت دعماً فنياً وإدارياً وتدريباً مجانياً. لم تكن البداية مبهرة، لكنها كانت صادقة ومبنية على طموح بلا حدود حتى صارت الشركة الأكبر في الشرق الأوسط، فالطائرتان أصبحتا 250 طائرة تصل إلى 150 وجهة في 80 بلداً، غير أن جوهر القصة ليس في الأرقام، بل في الفكرة التي آمنت بها دبي، فكرة أن الطيران ليس خدمات نقل فقط، بل أداة إستراتيجية لصناعة المستقبل وجذب العالم.
في المقابل، كانت «PAN AM» الأمريكية في الستينيات رمزاً للفخامة، بطائراتها العملاقة ومضيفاتها الأنيقات وشعارها الأزرق الذي يشاهد في كل مطار، لكنها لم تستوعب التقلبات الاقتصادية، فتحوّلت الرفاهية إلى عبء، قبل أن تدخل في دوامة التخبط لسنوات، حتى أعلنت إفلاسها عام 1991م، وبينما صعدت «طيران الامارات» على أجنحة الطموح، سقطت «بان آم» بثقل الماضي، لتتحوّل من أيقونة عالمية إلى ذكرى محزنة.
النهاية القاسية لشركة «بان آم» كشفت أن النجاح في عالم الطيران هشّ إذا لم يُدعَم برؤيةٍ واقعية وقدرةٍ على التكيّف، وأن الاستمرار في هذا القطاع لا يعتمد على حجم الأسطول ولا على رأس المال، بل على الذكاء الإداري واستشراف المستقبل، فالشركات التي عرفت كيف توظّف التقنيات، وتقرأ اتجاهات السوق وتستثمر في الكفاءة التشغيلية، هي التي بقيت متماسكة رغم الأزمات المتلاحقة.
الطيران ليس سباقاً في السماء بقدر ما هو سباقٌ في التفكير، من يقرأ الأفق أبعد يعيش أطول، أما من يكتفي بالمجد المؤقت فسيقع ضحية التراخي.
الطيران صناعة الأحلام، وهو أيضاً صناعة الوعي والقدرة على البقاء حين تهبط كل الطائرات.