: آخر تحديث

إقناع الآخرين بالحقيقة!

5
4
4

أحمد الجميعة

يشير مفهوم «البيئة الرقمية السائلة» -المستوحى من فكرة عالم الاجتماع زيغمونت باومان عن «الحداثة السائلة»- إلى أننا نعيش في عالم لم تعد فيه القيم والعلاقات الاجتماعية ثابتة وصلبة، بل أصبحت مرنة ومتغيّرة، وسريعة الزوال، مثل السائل تماماً، وهذا المفهوم ينطبق اليوم على الفضاء الافتراضي الذي يمتاز بالتغيّر المستمر، والتدفق السريع للمعلومات، والتكيّف مع مختلف الأجهزة والمنصات، إلى جانب تفكك الحدود التقليدية، وتعدّد الهويات الفردية لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تتشكّل شخصية مثالية في منصة إكس، ومهنية في لينكد إن، وواقعية في سناب شات، ومجهولة في منصات أخرى.

ومع هذه التغيّرات المستمرة المصحوبة بتراجع القيم الثابتة؛ يتزايد الشعور باللايقين والقلق من الواقع، وتحديداً مع حجم استهلاك الجمهور للمضامين الإعلامية والاتصالية في الشبكات، فما هو شائع اليوم قد يصبح قديماً غداً، وما هو ثابت قد يتحوّل مع مرور الوقت إلى متغيّر، وبناءً عليه تغيّرت الكثير من مفاهيم الأفراد وأذواقهم الاتصالية، وكذلك أدوار المؤسسات الاجتماعية الرئيسة، وحتى في بيئة العمل حينما تكون متطلبات الوظيفة بالأمس تختلف عنها اليوم.

التحدي اليوم في ظل البيئة الرقمية السائلة هو إقناع الآخرين بالحقيقة، وخصوصاً مع تعدد مصادرها، وتنوّع مواقفها، وتجدّد وسائلها، وطرق التعبير عنها، وهذا التحدي بالنسبة للآخر لم يعد يكفيه البحث عن الكامن في تفاصيل الحقيقة، وتفسيرها، وتحليلها، والتنبؤ بتداعياتها، ولكن في التشكيك بالحقيقة ذاتها، وعدم التسليم المطلق بها، وهو ما يجعل المهمة أصعب، وزاد الأمر تعقيداً تقنيات الذكاء الاصطناعي التي حوّلت المشهد الاتصالي إلى حالة من اليقين الذي يزول للأسف بالشك.

في حياتنا اليومية نستهلك وقتاً وجهداً لإقناع الآخرين بالحقيقة، وربما أكثر من ذلك في البحث عن ممرات آمنة للشواهد والإثباتات التي تجعل الحقيقة واقعاً، ولكن صراع القناعة في داخلنا يقودنا، أحياناً أو غالياً، إلى تقبّل الحقيقة ظاهرياً مع عدم القناعة بها داخلياً، وهذا الصراع بحد ذاته مزعج، ومربك، ويثير الكثير من الشك والتأزيم الذي يجعل البعض أمام تساؤلات يبحث لها عن إجابات قبل التحوّل إلى مرحلة القبول بالحقيقة، ثم الاقتناع بها.

اليوم كثير من الدول والمؤسسات وحتى الأفراد تجاوزوا فكرة إقناع الآخرين بالحقيقة، وركّزوا على الحقيقة ذاتها، من خلال مصداقيتها ودقتها وموضوعيتها، ولم يعد يعنيهم درجة قناعة الآخرين بها؛ لأنها في تقديرهم لم يعد لها حاجة أمام سرعة التغيير في الواقع، وبالتالي تركوا للآخرين قناعاتهم، ومضوا إلى حيث أهدافهم، واستشراف مستقبلهم، والزمن وحده كافٍ لتغيير تلك القناعات؛ لأن البيئة الرقمية السائلة تعلمنا في النهاية أن كل شيء يبدو مؤقتاً وغير ثابت بما فيها قناعتنا، وهذا هو بيت القصيد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد