في لحظة تحمل ثقل التاريخ ووهج الأمل، اعتلى العماد جوزيف عون سدّة الرئاسة في قصر بعبدا، حاملًا على كتفيه أحلام شعب أنهكته السنوات، وأمل في شخصيته العسكرية المهيبة ملاذًا من العاصفة. جاء انتخابه بتوافق نادر وكاسح، 99 صوتًا من أصل 128، ليس تعبيرًا عن حب جامح، بل محاولة أخيرة من قوى النظام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووضع رجل يُعتقد أنه "الرجل المناسب في الوقت المستحيل" على متن سفينة غارقة. التهاني الدولية والعربية التي تلقّاها كانت كالنسيم العليل على جمر الواقع اللبناني المحترق، فالمهمة التي تنتظره أشبه بمحاولة إعادة تركيب لوحة فسيفساء تحطّمت، حيث تتشابك القطع الاقتصادية المنهارة، من انهيار العملة إلى تراجع الخدمات العامة، مع خيوط سياسية معقّدة، مثل سلاح خارج سيطرة الدولة، والانقسامات الطائفية، ونفوذ إقليمي متشابك، في مشهد يختبر قدرة القائد العسكري على خوض معركة السياسة الأكثر تعقيدًا في حياته.
يحمل عون لواء "إعادة الدولة"، وهو شعار يتردّد كصدى لحلم لبناني قديم، لكن هذه المهمة لا تُقاس بخطابات، بل بأفعال ملموسة تبدأ باستعادة هيبة المؤسسات، وبناء دولة قانون، وإعادة دور الرئاسة ضمن منظومة دستورية أخلّ بها الفراغ الرئاسي لصالح القوى السياسية والمصرفية. دعوته القضاة إلى التحلّي بالعدل كانت إشارة ضرورية، لكن مواجهة وجود سلاح موازٍ يقطع نسيج السيادة هو حقل الألغام الحقيقي، وقد يهدّد التوافق الهش الذي أوصله إلى قصر بعبدا. الاختبار هنا ليس كرئيس فحسب، بل كوسيط بين منطق الدولة ومنطق الميليشيات، وبين الضغوط الدولية والإملاءات المحلية، وبين الحاجة إلى إقناع شعب فقد الثقة في كل شيء تقريبًا.
على صعيد الاقتصاد، سيواجه شبح الانهيار المالي الكامل، وهو تهديد أعظم من أي صراع أمني. خطوات الإصلاح، من التفاوض مع صندوق النقد الدولي إلى رفع الدعم وإعادة هيكلة القطاع المالي، هي مسار مليء بالشوك، وسيثير حفيظة كل الزعامات والنخب التي أوصلته. التوافق السياسي الذي أدّى إلى انتخابه قد يتحوّل إلى قيود أمام تنفيذه إصلاحات تمسّ مصالح الكتل الرئيسية، وهو ما يجعل من النجاح الاقتصادي تحدّيًا مركّبًا، مرتبطًا بقدرة عون على فرض إرادة الدولة والتفاوض مع جميع الأطراف بحكمة وبُعد نظر.
وليس الاقتصاد وحده الاختبار، فلبنان قطعة على رقعة شطرنج إقليمية ملتهبة. علاقاته مع الجوار، وإدارة ملف الحدود الجنوبية، والصراع غير المعلن مع إسرائيل، كلها موازين دقيقة تتأثّر بأي تحرّك في المنطقة. أي شرارة إقليمية قد تحرق جهوده الداخلية في لحظة، وتذكّره بأن سلطة الرئيس في بيروت لها حدود يرسمها الواقع الجيوسياسي، وأن أي إنجاز محلي قد يتبدّد أمام تداعيات الخارج. هنا يكمن التحدّي الأكبر: موازنة الأولويات الداخلية مع التحوّلات الخارجية، والحفاظ على استقرار لبنان وسط أزمات لا تنتهي.
وفي الداخل، لا يمكن الفصل بين قدراته الشخصية ونجاحه المرتقب وبين إرادة الطبقة السياسية التي أوصلته. التعاون مع الكتل الرئيسية شرط مسبق لأي خطوة إصلاحية، لكن هذه التوافقات قد تتحوّل إلى قيود إذا ما حاول عون اتخاذ إجراءات تمسّ مصالحها. فالنجاح ليس مسؤولية فردية فحسب، بل نتاج توازن دقيق بين شخصية الرئيس، وإرادة الشعب، ومرونة القوى السياسية، التي لطالما أعاقت أي محاولات حقيقية للتغيير منذ عقود.
وفي أعماق هذه المعادلة، يختلط الواقعي بالوجداني. الشعب اللبناني الذي احتفى بانتخابه هو نفسه الذي سيُقيّمه بمعايير الحياة اليومية، لا بمعايير التوافقات السياسية. الكهرباء، واستقرار سعر الصرف، والخدمات الأساسية، جميعها ستكون مقياس النجاح أو الفشل. هذا الشعب ليس مجرد متفرّج، بل مشارك في محكّ الحياة اليومية، وبيده تقييم نتائج أي رئاسة وفقًا لتأثيرها المباشر على حياته. وعليه، فإن التوقّعات كبيرة، والرهانات أعلى، ما يجعل مهمة الرئيس الجديدة أكثر صعوبة، لكنها في الوقت ذاته فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة من الداخل.
العاطفة تتقاطع هنا مع السياسة: أمل كبير، لكن حذر أكبر. اللبنانيون يرون في شخصية عون العسكرية المهيبة رمزًا للثبات وسط الفوضى، ويأملون أن يتمكّن من تحويل هذه الصفة إلى قوة سياسية قادرة على فرض الدولة. ومع ذلك، يظل السؤال الوجداني قائمًا: هل يمتلك القدرة على تفكيك قيود النظام الذي أوصل لبنان إلى هذه النقطة، وتحويل الرئاسة من منصب توافقي إلى فعل تأسيسي جديد يعيد السيادة والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية؟
إن مستقبل عون لا يُقاس بمجرد بقائه في المنصب، بل بقدرته على جعل الرئاسة وسيلة لتغيير ملموس وحقيقي. النجاح سيترك بصمة واضحة في حياة الناس، والفشل سيكون انعكاسًا للمعوّقات البنيوية العميقة التي عانى منها لبنان منذ عقود. المعركة الحقيقية ليست في القصر الرئاسي، بل في شوارع وبيوت اللبنانيين الذين سئموا الانتظار، وفي عقل كل مواطن يبحث عن إشارات ملموسة للتغيير.
اليوم، يجلس عون على مفترق طرق بين رمزية القائد العسكري وواقع دولة تواجه أزمات متعدّدة المستويات، بين إرادة الشعب للتغيير ومصالح القوى السياسية التي أوصلته. أي حركة فاعلة ستحتاج إلى مزيج نادر من الحكمة والمرونة والشجاعة السياسية. هذه المرّة ليست مجرد امتحان لشخصية الرئيس، بل امتحان لقدرة لبنان على إعادة بناء نفسه. الشعب يراقب، والوقت ليس في صالحه، والأيام المقبلة ستكشف ما إذا كان الرئيس الجديد قادرًا على أن يكون فعلًا محوريًا يلمس حياة اللبنانيين ويعيد لهم بعضًا من الأمل الذي طال انتظاره.
في نهاية المطاف، لن يُحكم على رئاسة جوزيف عون بخطاباته أو بنيّاته الحسنة، بل بنتائج ملموسة تلامس حياة اللبنانيين: عودة الكهرباء، واستقرار سعر الصرف، ولو نسبيًا، واستعادة هيبة الدولة في وجه منازعي سلطتها. المعركة الحقيقية للعماد عون ليست في قصر بعبدا، بل في شوارع وبيوت اللبنانيين الذين سئموا الوعود، وانتظروا طويلًا فعلًا واحدًا يلمسونه. هذا ما سيحدّد ما إذا كان لبنان سيشهد فجرًا جديدًا أم غروبًا آخر لأمل كان يلمع في سماء التاسع من كانون الثاني (يناير).


