يشكّل قسم الشرق الأوسط في "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية لعام 2025" نقطة تحوّل لافتة ومثيرة للجدل في الفكر الاستراتيجي الأميركي تجاه المنطقة، فبعد عقود من الهيمنة المطلقة للشرق الأوسط على الأجندة الخارجية الأميركية، تُعلن هذه الاستراتيجية صراحةً أن "الأيام التي هيمن فيها الشرق الأوسط على السياسة الخارجية الأميركية قد ولّت لحسن الحظ".
إن عنوان القسم "نقل الأعباء، بناء السلام" يلخّص بوضوح المنطق الجديد، وهو تقليص الالتزام العسكري المباشر والتركيز بدلاً من ذلك على تمكين الشركاء الإقليميين وتعزيز السلام الاقتصادي بما يتماشى مع مبدأ "أميركا أولاً".
مبرّرات تفكيك الأولوية
تستند الاستراتيجية إلى ثلاثة مبرّرات رئيسية لتبرير سحب التركيز، وهي مبرّرات تحمل قدراً من التفاؤل الاستراتيجي:
الاستقلال في مجال الطاقة: التبرير الأقوى هو فقدان الشرق الأوسط لمركزه التاريخي كأهم مصدر للطاقة في العالم، مع تحوّل الولايات المتحدة إلى مصدر صافٍ للطاقة، وهذا يزيل السبب الأيديولوجي والاقتصادي الأعمق وراء التدخلات المكلفة.
استقرار الصراعات: تفترض الاستراتيجية أن الصراع في المنطقة بات "أقل إثارة للمتاعب"، وتعزو ذلك إلى إضعاف القدرات النووية الإيرانية بفضل "عملية مطرقة منتصف الليل"، والتقدّم نحو "سلام أكثر ديمومة" في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بفضل وقف إطلاق النار وتسهيل عودة الرهائن، إلى جانب تراجع أو ابتعاد داعمي حماس الرئيسيين.
تطوّر العلاقة: ترى الوثيقة أن المنطقة تتحوّل من مسرح للصراعات إلى "مكان للشراكة والصداقة والاستثمار"، خاصة في قطاعات المستقبل مثل الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي، ما يقلّل من احتمالية أن يكون الشرق الأوسط "مصدر الإزعاج المستمر".
جوهر الاستراتيجية: نقل الأعباء والانسحاب من "بناء الأمة"
إن هذا التقييم، سواء كان دقيقاً أم مفرطاً في التفاؤل، يؤدّي إلى استنتاج استراتيجي حاسم، مختصره أن على الولايات المتحدة معالجة مصالحها الأساسية دون الانخراط في "عقود من حروب بناء الأمة العقيمة".
تتمحور المصالح الأساسية للولايات المتحدة حول ثلاثة محاور محدّدة:
منع ظهور قوة عدوانية تهدّد المصالح الأميركية في المنطقة.
ضمان عدم قدرة أي دولة أو مجموعة على إطلاق إرهاب ضد المصالح أو الوطن الأميركي.
الحفاظ على أمن إسرائيل.
إن تحقيق هذه الأهداف دون "حروب مكلفة" يتطلّب بالضرورة تفعيل مفهوم "نقل الأعباء"، وهذا يعني عملياً أن الشركاء الإقليميين، وخصوصاً دول الخليج وإسرائيل، مُطالبون بتحمّل المسؤولية الأمنية الرئيسية، أمّا الولايات المتحدة الأميركية فإن دورها يقتصر على الحماية من التهديدات الوجودية الكبرى، مثل تفكيك البرنامج النووي الإيراني، واستخدام نفوذها السياسي والدبلوماسي لتحويل النزاعات إلى تسويات، في إطار دبلوماسية الرئيس ترامب لـ "بناء السلام".
التوسّع الاقتصادي كبديل للاحتواء العسكري
تشير الاستراتيجية إلى مصلحة واضحة في توسيع اتفاقيات إبراهيم، ليس فقط كإطار للتطبيع السياسي والأمني، بل كمنصّة للتعاون الاقتصادي في مجالات التكنولوجيا والابتكار. ويمثّل هذا التركيز الاقتصادي رؤية لإعادة تعريف العلاقة الأميركية-الشرق أوسطية، فبدلاً من أن تكون علاقة "أمن مقابل نفط" أو "حماية مقابل نفوذ"، تتحوّل إلى علاقة "استثمار مقابل استقرار"، ويتم استبدال عبء الوجود العسكري الدائم بفرص الاستثمار في قطاعات الطاقة الجديدة والتقنيات المتقدّمة، بحيث تستفيد الشركات الأميركية من تحوّل المنطقة.
قراءة نقدية: تفاؤل قد يكون سابقاً لأوانه
بالرغم من الوضوح الاستراتيجي الذي يوفّره هذا القسم، فإن هذا التحوّل يحمل في طيّاته مخاطر كبيرة، أهمها:
خطر الفراغ الأمني: إن تقليص الاهتمام لا يقلّل بالضرورة من أهمية المنطقة، فالتنافس بين القوى الكبرى، روسيا والصين، لم يختفِ، وقد يؤدّي انسحاب الانتباه الأميركي إلى خلق فراغ تُسارع قوى أخرى إلى ملئه، ما قد يعيد الشرق الأوسط إلى مربّع "مسرح التنافس بين القوى الكبرى"، ولكن بشروط مختلفة وأقل ملاءمة للولايات المتحدة.
هشاشة الاستقرار: يبالغ النص في الثقة بأن الصراعات قد أصبحت "أقل إثارة للمتاعب"، فبؤر التوتّر، سوريا والتهديد الإيراني غير النووي والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا تزال موجودة، وأي تقدير خاطئ لمدى استقرار المنطقة قد يؤدّي إلى تصاعد مفاجئ يُجبر واشنطن على التدخّل مجدداً، ولكن هذه المرّة من موقع أبعد وأضعف.
نقل الأعباء أم التخلّي: قد يفسّر الشركاء الإقليميون سياسة "نقل الأعباء" على أنها "تخلٍّ استراتيجي"، ما يدفعهم إلى البحث عن ترتيبات أمنية أخرى، بما في ذلك التقارب مع الصين وروسيا بشكل أكبر لضمان مصالحهم.
في الختام، تُعدّ استراتيجية 2025 في الشرق الأوسط محاولة جريئة لتحويل العلاقة من علاقة تتركّز على الأمن والتدخّل إلى علاقة تتركّز على التجارة والاستثمار، مع إعطاء الأولوية القصوى للمصالح الأميركية المباشرة. وإذا نجحت الإدارة في إبقاء المنطقة مستقرة بدبلوماسية قوية وتدخّلات محدودة عالية القيمة، مثل "مطرقة منتصف الليل"، فسيكون هذا نموذجاً ناجحاً لـ "أميركا أولاً" في الشرق الأوسط، أمّا إذا كان هذا التقييم للاستقرار سابقاً لأوانه، فقد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للعودة إلى المنطقة، ولكن بأثمان استراتيجية أغلى بكثير.


