يكثر على وسائل التواصل الاجتماعي ظهور بعض المشايخ والدعاة وغيرهم ممّن يسارعون إلى تهمة الانحراف عن معالم الدين الحنيف وأصوله، فيبنون على تهمتهم حكم الضلالة والتبديع والتكفير. ويكثر أن يتم استعمال هذه الآراء والأقوال في المجال السياسي، الذي هو داء الدين والجرثومة التي تفتك بقيمه وبنيته المتماسكة، والتي تكون في أغلب الأحيان مُفسِدة، ولا تسمح للدين أن يكون مُصلحًا لمفاسدها ومُقوّمًا لاعوجاجها.
وأخطر ما يكون من هذا الاستعمال والتداخل غير المستقيم بين هذين الحقلين المتنافرين المتضادين، أخطره في مزاعم الردّة والخروج من الدين في حق بعض الفرق، ولا سيما ما يُسمّى بـ: (الفرق الباطنية). ومكمن الخطر والبلاء في هذه المزاعم هو تحويرها من الحقل الأصولي، الذي كان يُعرف بعلم الكلام والدراسات الفكرية، إلى المجال السياسي الملتهب اضطرابًا وجدلاً واصطراعًا طائفيًا حادًا. لقد كان هذا الاختلاف والخلاف محصورًا في أول أمره في حقل علم الكلام، وهو حقل نظري فكري جدلي، غير مُلزِم ولا محدود بحدود شرعية فارضة، وإنما كان قوامه الحُجّة والتأويل والحِجاج والمنطق العقلي الصوري. وكان لدلالاته معناها اللغوي والمفهومي العقدي غير السياسي أو الحُكمي الحدّي (من الأحكام والحدود الشرعية). فمفهوم التكفير لم يكن يعني في علم أصول الدين ما يجاوز بُعده القِيَمي البعيد عن الحكم الدنيوي، وهذا لأنه تكفير جدلي حِجاجي غير ثابت، وهو مستخدم عند كل الفرق الإسلامية وعند غيرها من الملل الأخرى؛ فكل فرقة كافرة بأصول ما يخالفها من الملة أو من غير الملة على السواء في الكفر، مع الاختلاف في الميعاد (الوعد والوعيد). أي إن التكفير الكلامي لم يكن يترتب عليه أي حكم دنيوي إلا في الكفر المخرج من الملة، وهو نسبي جدلي، وأحكامه الدنيوية مرتبطة بأحكام الزواج والصلاة والشهادة والمحالفة والمخالفة، ولم تتجاوز ذلك إلى الحرابة وتحليل الدم.
وكان الإمام أبو حامد الغزالي (505هـ)، رحمه الله وعفا عنه، أول من شرع جواز تحليل الدم في الفرق الباطنية، ثم فُتح هذا الباب وصار مشرّعًا على مصراعيه على يد ابن تيمية (728هـ)، رحمه الله وغفر له، ومن تلاه وتابعه في الرأي. وأما قبل الغزالي، فهذا الأصولي عبد القاهر البغدادي (429هـ)، رحمه الله، صاحب كتاب «الفرق بين الفرق»، يذكر الفرق الضالة والتي ليست من جملة ملة الإسلام، فلا يذكر شيئًا في دمائهم البتة. لكن من يقرأ الفتوى في سياقها التاريخي، سواء أكانت عند الغزالي أم عند ابن تيمية، فسيجد أنهما فتويان صدرتا عن ظرفين سياسيين متماثلين: الأول زمن حصن آلموت وسياسة الاغتيالات السياسية التي انتهجها أهل الحصن، والثاني زمن الغزو المغولي وما رافقه من تحالفات عسكرية وتجاذبات سياسية.
ولسنا نريد أن نناقش تلك الحقبة التي كانت حقبة قلاقل ونزاعات وتفرقة، وإنما نريد هنا التنبيه إلى ثلاث إشارات أصولية دالّة دلالة قاطعة:
الإشارة الأولى، أن النص القرآني وما يحمله من طاقات بيانية يجعله قابلاً لكل صورة، كما قال ابن عربي رحمه الله. فلا مجال لحصر مثل هذا النص البلاغي المعجز في دلالات محدودة يمكن لأي متأوّل أن يُحيط بها علمًا وفهمًا، ولا سيما بعد أن انقطع الوحي وارتقى مُبلِّغه النبيّ إلى الرفيق الأعلى. وهذا ما يؤكده السياق التاريخي في اختلاف القوم من الجيل الأول، والصحابة فيهم، في تأويله وتفسيره بعد وفاة الرسول، بل إن بعض هذا الاختلاف وقع في زمن الرسول نفسه. ونجد الخبر اليقين السابق على علم اللغة الحديث وفلسفتها عند القاضي الفقيه عبيد الله بن الحسن العنبري، المتوفى سنة (168هـ)، وهو قاضي البصرة زمن الخليفة العباسي المهدي، ومن أكثر قضاة الإسلام شهرة ومناقب وإشادة وفقهًا.
فقد نقل الكعبي المعتزلي قولًا له يرى فيه: «أن سبيل جميع الاختلاف سبيل واحد، وليس على الإنسان إلا ما أراده عقله وأوجبه نظره… قال: وليس يجوز أن يكون القول لبعض التأويلات أشد احتمالًا منه للبعض الآخر…». ثم تحدث عن جواز أن يحتمل القول الواحد من حديث النبي أكثر من وجه، فلو احتمل القول خمسة وجوه، مثلاً، لجازت خمستها. وقال: لو أن أحدًا رأى في الغداة اجتهادًا في قول، ثم رأى خلافه في العشي، لجاز له أن يغيّر، وهو في الحالين مصيب. ثم قال بحسب أبي القاسم الكعبي: «وكذلك في القرآن، زعم أن بعض القرآن يدل على الجبري، وبعضه يدل على العدلي، والفريقان جميعًا قد أصابا. قال: وربما كانت الآية الواحدة من القرآن تحتمل وجهين مختلفين، تحتمل معنيين متضادين» [مقالات الكعبي، ص 495-498]. ونقل عنه ابن قتيبة أنه «سُئل يومًا عن أهل القدر وأهل الإجبار؟ فقال: كل مصيب؛ هؤلاء قوم عظّموا الله، وهؤلاء قوم نزّهوا الله» [تأويل مختلف الحديث، ص 122]. وهذا يعني أنه رأى التأويل هو الأصل لا التنصيص؛ فدلّل على ذلك بأن الصحابة قد اختلفوا في تفسير القرآن والسنة، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وأدرى الأنام بفهم اللغة وتفسيرها، فلما اختلفوا دلّ على أن هذا هو الأصل فيه، وإلا لكانوا معاندين عاصين لأمر الله وسنة نبيه في اختلافهم، مع ما لهم من ملكة اللغة والبيان [مقالات الكعبي، ص 495]. ثم قال على نحو قاطع واضح: «وقد يدل على أن الله شاء الاختلاف في التأويل؛ إذ جعل القول الذي فرضه يحتمل الوجوه، وعلم أن ذلك أصلح، كما خالف بين ألوانهم وأفعالهم وأخلاقهم وشهواتهم وأوطانهم وأنسابهم، والحكم بالتأويل من أي وجه كان طاعة» [نفسه، ص 495-496]. ونُقل عن مويس بن عمران قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُكملت له الشريعة وتولّى ذلك، جُعل له ما سوى ذلك، وهو أن يُفتي بالحادثات بما يرى وأن يسنّ بما شاء، فلما توفاه الله جعل مثل ذلك لصاحب أمته والعلماء بكتاب الله وسنة رسوله [مقالات الكعبي، ص 498]. وقد نقل الكعبي في مقالاته عن جماعة من المعتزلة، لم يسمّهم، أنهم أبطلوا القول بالاجتهاد والقياس في الأحكام، وقالوا: إن الواجب أن يُحكم في الكتاب والسنة المجمع عليها، فإن حدث شيء من الحوادث ليس فيه كتاب أو سنة مجمع عليها، فالذي يلزم هو الوقوف في تلك الحادثة، ويُردّ الحكم فيها بشيء ويتركها على أصلها [ص 502]. أي إن لكل جديد حكمه الوضعي المتفق عليه.
إذًا، فاختلاف الملة هو الأصل، وأما القول بالتكفير المخرج من الملة فهو اتهام متبادل، ولا توجد فرقة أو جماعة تُسلّم به، وهي ترى من نفسها وأصولها الدين الصحيح. والقرآن يقول: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. ويرد على دعوى الحكم الدنيوي: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}.
أما الإشارة الثانية، فهي أن دعوى الردّة غير متحققة في العصر الراهن؛ لأن شرط الردّة الذي لا لبس فيه هو، ولا غيره، أن يدخل المرء في الدين ثم يخرج عليه ويرتدّ عنه. هذا سبب الحكم ومنها تُستنبط علته. وليس هذا الشرط وتوصيفه حاصلًا في أتباع الفرق أجمعها، باطنيتها وغيرها، ولا ينطبق على أحد منهم؛ لأن الفرد فيهم وُلد على هذه الفرقة والعقيدة، ولم يتحقق فيه شرط الخروج، فهو على معتقده وتأويله للدين باقٍ منذ وُلد. وهذا يُبطل شبهة الردّة ويقطع بعدم تحققها.
وأما الإشارة الثالثة، فلا تجد أحدًا من أتباع الفرق كلها إلا وهو يؤمن بالله ربًا، وبمحمد رسولًا ونبيًا، وبالقرآن كتابًا، وإنما الاختلاف في تفصيل ذلك وفيما عداه. وهذا، بحكم المنطق والنظرة الرحمانية التي وسعت كل شيء، لا يخرج صاحبه من ربقة الإسلام. وهناك كُثُر من فقهاء الأمة وأهل الأصول قالوا إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب.
ولهذا قال ابن عربي:
«صار قلبي قابلًا كلَّ صورة».
فآن لنا أن نوقن برحمة ربنا، وأن نقدّس دينه الرحيب عن سفاسف التضييق والإقصاء، وأن نُنزّه قوله عن رجس السياسة وشهوة الدم. ويجب أن نتساءل تساؤل الفكر والنظر: أين ذهبت هذه الرؤى، ولم جرى تهميشها؟


