: آخر تحديث

الخليج بعد إستراتيجية واشنطن 2025

3
2
2

تعكس إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 تحوّلًا عميقًا في طريقة تفكير واشنطن حيال العالم، أكثر مما تعكس مجرد إعادة صياغة دورية لوثيقة سياسية معتادة. فحين تعلن الإدارة الأمريكية صراحة إعادة إحياء مبدأ مونرو، وتضع نصف الكرة الغربي في صدارة أولوياتها، فإن ذلك لم يعد استنتاجًا تحليليًا، بل صار تعبيرًا صريحًا عن انتقال الولايات المتحدة إلى منطق حماية مجالها الحيوي الأول، والتعامل مع بقية الأقاليم، ومن ضمنها الشرق الأوسط والخليج، بوصفها ساحات يجب ضبطها بأقل كلفة ممكنة، لا بوصفها مسارح حروب طويلة أو مشاريع إعادة هندسة قسرية لأنظمة الحكم.

بالنسبة لدول الخليج، لا تعني هذه النقلة إعلان طلاق مع واشنطن، لكنها بلا شك تعني نهاية مرحلة الاعتماد الكامل على مفهوم شرطي واحد للمنطقة، وتشير معطيات الأسابيع الأخيرة إلى أن المعادلة الجديدة أقرب إلى عقد شراكة مدفوعة الثمن، قوامه تقاسم الأعباء والمسؤوليات. وبمعنى آخر، لم تعد الولايات المتحدة مستعدة لحمل النظام الإقليمي بأكمله وحدها، لكنها ما زالت راغبة في البقاء شريكًا ضامنًا لمنظومات الردع، شرط أن يتحمل الحلفاء نصيبًا أكبر من تكلفة الأمن والاستقرار، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.

ثم يأتي السؤال الذي يتجاوز الأبعاد السياسية الراهنة: كيف يُعاد تعريف موقع الخليج في منظومة التحالفات الإقليمية، وفي القلب من ذلك العلاقة مع دولة إسرائيل؟ فإسرائيل في الحسابات الأمريكية ليست مجرد حليف تقليدي، بل جزء من بنية تفوق تكنولوجي وعسكري يُراد له أن يضبط منطقة الشرق الاوسط من دون انخراط بري كثيف.

وبالنسبة لدول الخليج، تبدو الشراكة مع دولة إسرائيل في مجالات الدفاع الصاروخي والجوي، وأنظمة الإنذار المبكر، والأمن السيبراني، ومواجهة الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، فرصة لبناء طبقة إضافية من الحماية تتجاوز منطق “طلب النجدة” من قوة بعيدة، إلى منطق نسج شبكة دفاعية متداخلة مع فاعل يملك قرارًا ميدانيًا مستقلًا وقدرة تنفيذية عالية. ومن وجهة نظري، فإن من يراهن اليوم على تحالفات عاطفية أو اصطفافات ظرفية في بيئة إقليمية بهذه السيولة، كمن يبني أمنه على رمال متحركة.

ومن هذا المنظور تحديدًا، فإن زيادة التعاون والتطبيع مع دولة إسرائيل لا يمكن النظر إليها بوصفها خيارًا سياسيًا عابرًا أو تكتيكًا ظرفيًا، بل باعتبارها جزءًا من معادلة حماية أنظمة الحكم نفسها في الخليج، فالعلاقات بين الدول لا تُبنى على العواطف أو الشعارات، بل على المصالح المشتركة وحسابات الربح والخسارة. ووجود علاقة مستقرة ومتشابكة المصالح مع إسرائيل، بما تمتلكه من ثقل عسكري وتكنولوجي واستخباراتي، يضيف طبقة واقعية إلى منظومة الأمن الخليجي، ويمنح دول الخليج هامشًا أوسع في إدارة المخاطر الإقليمية. كما أن هذا المسار يقلّل، في الوقت ذاته، من كلفة الارتهان لقوى إقليمية متقلّبة المزاج والمواقف، تتغيّر تحالفاتها بتغيّر أزماتها ومصالحها، ويُعيد توجيه بوصلة الأمن من منطق البدائل الهشّة إلى منطق الشراكات الصلبة القائمة على التشابك الاستراتيجي طويل المدى.

وفي هذا السياق، يتحول التقارب الخليجي–الإسرائيلي من ملف تطبيع سياسي واقتصادي إلى ركيزة في هندسة منظومة الردع الجديدة، فوجود قنوات مفتوحة ومؤسسات مشتركة ومشروعات دفاعية وتكنولوجية عابرة للحدود، يخلق تشابكًا في المصالح يصعب فكّه بسرعة، ويُدخل عنصرًا جديدًا في حسابات أي طرف إقليمي يفكر في تهديد أمن الخليج، سواء كان دولة توسعية أو تنظيمًا عابرًا للحدود.

ومن وجهة نظري، فإن أخطر سيناريوهات استهداف الخليج في المرحلة المقبلة لا تمر عبر مواجهات عسكرية مباشرة، بل عبر مشاريع الهيمنة الإقليمية التي تسعى لاستخدام المجتمعات الخليجية كساحات اشتباك غير مباشر، من خلال التحريض السياسي، وتفجير التناقضات الاجتماعية، واستثمار المنصات الرقمية، وبناء شبكات نفوذ عابرة للحدود. وهنا لا نتحدث عن صراع تقليدي بين دول فقط، بل عن صراع على شكل الدولة نفسها، وعلى طبيعة علاقتها بمواطنيها، وعلى موقعها في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.

في المحصلة، لا تطرح مرحلة ما بعد 2025 سؤال شكل التحالفات فقط، بل سؤال؛ من يحرس الدولة عندما تتبدل أولويات الكبار، وتتغير خرائط المصالح، وتشتد شهية اللاعبين الإقليميين للتمدد والاختراق، وأرى بوضوح أن الدولة التي لا تبني أمنها بيدها، ولا تُحصّن مجتمعها بوعيها، ولا تُحكم شبكات مصالحها ببراغماتيتها، ستجد نفسها في لحظة ما تقاتل وحدها في ساحة لم تختر توقيتها ولا أدواتها؛ ومتى يعود الكبار للاهتمام بحدودهم ومجتمعاتهم أولا، تصبح الدولة الذكية مطالبة بأن تحرس أبوابها بنفسها؛ وبأن تختار شركاؤها على أساس القدرة الفعلية على حماية هذه الأبواب، لا على أساس الشعارات او العواطف او الذاكرة التاريخية وحدها.

الحقيقة انه في عالم تُدار فيه الصراعات اليوم بلا جيوش أحيانًا، وبلا صواريخ أحيانًا أخرى، يصبح الوعي أول خطوط الدفاع؛ والفارق بين دولة تنجو ودولة تتآكل، ليس في عدد أسلحتها فقط، بل في قدرتها على أن ترى الخطر وهو لا يزال فكرة، لا حين يصبح واقعًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.