إذا كان لكلّ علمٍ نشأ قصّةٌ وتاريخٌ مع البشريّة، فالفلسفة، أو علم البحث في منطق الأشياء، هذا العلم الذي تبنّاه عشّاق الحكمة والأخلاق، أو (الفيلوسوفيا)، هو أقدم هذه العلوم على الإطلاق. فالفلسفة، كونها علماً نظريّاً بحتاً كبقيّة العلوم الإنسانيّة، نشأت مع بدء الخليقة، أو بالأحرى مع بدء إخراج الأصوات بديلاً عن لغة الإشارة، أو بالأحرى النطق وتكوين الجمل. ومن هنا ارتبطت الفلسفة بالمنطق، ومعها بدأت الوظيفة الرئيسة للعقل البشري، الذي تميّز به الإنسان دون سائر المخلوقات، وهي التفكير؛ التفكير في كيفيّة تغيير مسار البشريّة من مسار الأكل والتناسل والقبيلة والاعتقاد في الأساطير، وتغييره إلى مسارات عقلانيّة أخرى فرضتها طبيعة نموّ وتطوّر المجتمعات البشريّة واحتياجاتها الاجتماعيّة الناتجة عن تنوّع الأنشطة الإنسانيّة، صناعةً وزراعةً وسياسةً واقتصاداً واجتماعاً وعقائد، بالإضافة إلى محاولة الإجابة عن السؤال الأزلي: كيف نشأ الكون؟
وبديلاً عن البراهين العلميّة والمادّيّة الحاسمة المستخدمة في نظريّات العلوم الطبيعيّة، كان البديل هو براهين المنطق النظري الجدلي، وهو الوسيلة المتاحة. ولذا عانى الروّاد الأوائل أشدّ المعاناة؛ لأنّهم تصدّوا لقضايا وتساؤلات حائرة، مغلّفة بأساطير ومرويّات راسخة ومتكلّسة منذ فجر البشريّة، والإجابة عليها تتطلّب شجاعةً وحرّيّةً وعلماً وبحثاً وتجريباً في كلّ مناحي الحياة، دون أيّ معوّقات أو تابوهات محظور الاقتراب منها.
وقد كان ذلك متاحاً في كلّ الحضارات القديمة؛ المصريّة واليونانيّة والإغريقيّة وآشور وبابل وكونفوشيوس وغيرهم، ممّن أرسوا قواعد ومناهج العلوم والسلوك والأخلاق والحكمة في المسيرة الإنسانيّة. وإذا استثنينا واقعة محاكمة سقراط قبل الميلاد، نقول إنّ ذلك كان متاحاً حتّى القرون الأولى بعد الميلاد، حيث بدأ الصدام بين النسبي والمطلق. فالنسبي هو قضايا الأرض التي نعيش عليها ونعتاش منها، ونبحث فيها ونؤوّلها ونغيّرها وننكرها ونستبدلها ونقوّمها ونجتهد فيها، ومن ثمّ نصل إلى الأنسب والأمثل المتّفق عليه. أمّا المطلق، فهو قضايا السماء الموحى بها، وتلك ممنوع الاقتراب منها أو البحث فيها.
وهنا تحوّل الصدام الجدلي إلى صدامٍ دامٍ، كان الرجل الذي اكتشف كرويّة الأرض باكورة ضحاياه، ثمّ تلاه كُثُر من عشّاق الحكمة ومريديها، كفّروهم وأحرقوهم وسجنوهم، لا لشيء سوى أنّهم أعملوا عقولهم، واستخدموا الهبة التي تميّزوا بها عن سائر المخلوقات، وأعلوا راية المقاصد العليا لإعمار الكون: الخير والحقّ والجمال والحبّ والابتكار والبحث والتجريب.
وبفضل هؤلاء الروّاد، فلاسفة العلوم العظام، خرج الغرب من هذا النفق المظلم، وانطلقت ثورة عارمة أزاحت كلّ ما يقف في طريق العقل، ونهضت مجتمعات من العدم إلى رحاب الحداثة والتقدّم والرقي، وأفاضت على كلّ البشريّة علماً وابتكاراً وصحّةً وتعليماً وصناعةً وزراعةً، وكلّ مناحي النشاط الإنساني.
وعلى النقيض، تجمّدت مجتمعات وظلّت حبيسة ثقافات القرون الوسطى، غيبيّات وأساطير وحروب طاحنة تدور بين قبليّات وعشائر وإثنيّات، حيث لا صوت لعقل ولا همس لفكر، ويغرق الجميع في مستنقع تخلّف وفقر وعنصريّة واحتراب وجوع ومخيّمات، وتمّ إرهاب كلّ من يحاول مجرّد محاولة إعمال العقل، حتّى تظلّ هذه المجتمعات مجرّد قطعان تحكمها غريزتا الأكل والتناسل.


