شخصيات بريطانية جدلية مثيرة صورتها منقوشة في الذاكرة العربية بدءاً من «لورنس العرب» مستشار ملك العراق أول عشرينات القرن الماضي إلى «توني العرب» حسب تسمية صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية أو «بلير العرب» شريك حرب العراق أول القرن الحالي.
قبل قرن ونيف كتب «لورنس» مقالاً عنوانه «الشرق المتغير» جاء فيه «إن العالم الخارجي مستعد دائماً للنظر إلى أسوأ ما فينا»؛ إعدادات هذه النظرة إليهم لم تتغير في الشرق المتغير، كما بدا فور تسمية السيد توني بلير ضمن مجلس الإدارة الدولية لغزة وفق «خطة ترمب».
على العكس من إطلاق اسمه على أطفال ألبانيين امتناناً لدوره في حرب كوسوفو، قليلٌ في الشرق من يطيق سماع اسمه، نتيجة اختزان «ذكريات سيئة» عن ضلوعه في حربي أفغانستان 2001 والعراق 2003. فضلاً عن دوره كمبعوث للجنة الرباعية 2007-2015.
اعتذر بلير عن «الأخطاء» الناجمة عن حرب العراق ولم ينكر مسؤوليته ومشاركته، بل يشرح دوافعه الأخلاقية لشن تلك الحرب... حسب مذكراته «الرحلة»، مستذكراً جرأة سلفيه رئيسي وزراء بريطانيا: ونستون تشرشل، ومارغريت ثاتشر، على انفرادهما باتخاذ قراري خوض الحرب العالمية الثانية وحرب الفوكلاند. لكن بلير في كتابه الأخير «عن القيادة» ينتهي إلى استحالة «إقناع شخص لا يريد أن يقتنع»... فيواصل محاولة تكوين إرثٍ إضافي في قضايا أخرى، لا قضية واحدة تأسر صورته داخل إطار واحد.
تنتشر صورة سلبية ممزوجة بمشاعر سخط وكراهية وعدم موثوقية ببعض السياسيين نتيجة قرارات خاطئة تبهت أمامها اللمسات الإيجابية لقيادتهم وأفكارهم ومواقفهم في نواحٍ ثانية، من ثَمّ يصح قول شكسبير بمسرحية هنري الثامن: «محاسن الناس تُكتب على الماء ومساوئهم تُنقش على النحاس»؛ إنما يُذكَر للسيد بلير العازف على الغيتار غير العازف عن السياسة، مساعيه لحل قضية آيرلندا الشمالية 2007 «الأصعب من قضية الشرق الأوسط» حسب قوله.
الآن، بعد عامين من دمار غزة، وبعد قرن من قرار الانتداب البريطاني على فلسطين، المنتهي بمأساة، يقدم بلير مقترحاً حول مشروع الإدارة الدولية لغزة، لا ننتظر أن ينتهي بمأساة جديدة. يتضمن المقترح «هياكل» مؤسسية أكثر وأكبر من «هيكل سليمان».
اشتراك بلير وإشرافه على إدارة غزة، بعد ترحيب وأيضاً استنكار فصائل فلسطينية متباينة، تفوقه أهميةً قدرة ورغبة الفلسطينيين والإسرائيليين على الالتزام الحقيقي بما يُتفَق عليه ويطوي صفحة الحرب، بالإصلاح الداخلي، والتخلي عن العنف، وقبول حل الدولتين.
خلال رحلات رئيس الوزراء البريطاني ومبعوث الرباعية السابق بلير تطرق إلى حل الدولتين مراراً حسب مذكراته، منوهاً بالمبادرة العربية 2002، وشدد على وجوب أن «يمتلك الإسرائيليون رؤيةً وتبصراً يساعدان على إدراك أن الفلسطينيين بغير دولة تخصهم يقومون بإدارتها، سيعانون إحساساً مريراً بالظلم يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف إسرائيل»؛ في الوقت عينه يطلب من «الفلسطينيين والمنطقة بأسرها ألا ينظروا إلى إسرائيل بوصفها جسماً غريباً مغروساً في المنطقة...»!
حين يحث بلير القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية على نظر كل منهما إلى قلق الآخر على قضيته المتعلقة بمسألتين جوهريتين هما «كرامة» و«وجود»، يرجع بنا إلى أحد معطيات «المبادئ العشرة المركزية والجوهرية لحل النزاعات» المعتمدة أثناء «(رحلة) السلام في آيرلندا الشمالية»، إذ يقول: «من النادر جداً أن يرى كل من الجانبين الألم الذي يقاسيه الطرف الآخر».
رحلة جديدة سيخوضها «الخبير» توني بلير، فهل تُكتب على مياه الشرق الأوسط محاسنه أو ستُنقش على النحاس وجهة نظر لا تتغير؟