تواجه طهران اليوم مأزقاً مزدوجاً؛ عودة العقوبات الأممية، وانكماش الشرعية الداخلية. وبدل أن تُعيد صياغة علاقتها بمواطنيها عبر إصلاحٍ اقتصادي وسياسي جاد، لجأت إلى خطابٍ رمزيٍّ يُنقّب في الماضي السحيق، ويستنهض رموزاً وأساطير قديمة، في محاولةٍ لخلق شعورٍ قومي بديل عن مفهوم المواطنة الحديثة التي تقوم على تحسين شروط الحياة والعدالة والمشاركة.
منذ الصيف الماضي، حين نُصب تمثال «آرش الرامي» وسط طهران، تبلور هذا التوجّه بوضوح. فقد عادت طهران إلى استدعاء التاريخ ما قبل الإسلامي في محاولة لاستبدال خطابٍ قومي يستحضر أمجاد الإمبراطوريات الغابرة بلغة الثورة الدينية. في الإعلام، جنديٌّ أخميني يُرفع إلى جانب جنديٍّ معاصر تحت شعار «من أجل إيران»، كأن الدولة التي قامت على «الأمة الإسلامية» تسعى الآن إلى إعادة إنتاج نفسها بوصفها «الأمة الإيرانية».
غير أنَّ هذا الخطاب القومي لا يُخفي حقيقةً أعمق، فالإيرانيون يعيشون انقطاع الكهرباء والماء، وتدهور العملة، وتآكل الخدمات، فيما تتحول العقوبات من حصارٍ خارجي إلى مرآةٍ لعجزٍ داخلي. لقد سقطت سردية «المظلومية» أمام واقعٍ يراه المواطن يومياً في الأسعار والوظائف والفساد.
وبينما يرفع النظام شعار القومية لتوحيد الداخل، تزداد شعارات الشارع التي تكشف الانقسام: «لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران»، و«الماء والحياة حقوقنا». إنها عودةٌ إلى المطالب المعيشية بعد عقودٍ من استنزاف المشاعر الدينية والقومية على حدٍّ سواء. فالقومية التي يُفترض أن تكون إطاراً جامعاً، تحوّلت إلى وسيلةٍ لاحتكار الهوية وإقصاء المختلفين، تماماً كما فعل الخطاب الثوري في العقود السابقة.
كان يمكن امتصاص العقوبات القديمة بخطابٍ تعبوي يوجّه الغضب نحو الخارج، أما اليوم فهي تُصيب شريان الحياة مباشرة. الاقتصاد المرهق، والريال المنهك، وتراجع البنى التحتية، تجعل كل ضغطٍ خارجي مضاعف الأثر داخلياً. ومع تآكل موارد الحرس الثوري وشبكات الاقتصاد الموازي، تتصاعد التوترات داخل النخبة نفسها، خصوصاً مع اقتراب مرحلة ما بعد المرشد الأعلى، حيث تُستعمل القومية لا أداة وحدة، بل سلاح في صراع الشرعية.
وفي الخارج، يبدو الموقف أكثر ارتباكاً. فمحاولة إيران الاستمرار في برنامجه النووي تحت غطاء «الكرامة الوطنية» تواجه منظومةً دوليةً أعادت ترتيب أولوياتها بعد الحرب الأوكرانية. عودة العقوبات ليست مجرد ضغوط اقتصادية، بل منظومة رقابةٍ تقنية قادرة على تعطيل أي مسارٍ استراتيجي حساس. وكل تأخير في المشاريع النووية أو الصاروخية يعني خصماً من رصيد النظام السياسي الذي يفقد تدريجياً القدرة على تبرير العزلة.
تعيش إيران مفارقة الدولة الحديثة التي تمتلك كل مقومات البقاء - الثروة، والموقع، والموارد البشرية - لكنها تُصرّ على تعريف قوتها بما تُقاوم لا بما تُنتج. تعيش على ذاكرة الإمبراطوريات القديمة بدل مشروع الدولة العصرية. فبينما تُحوّل دول الجوار استقرارها إلى نفوذٍ واقتصادٍ منتج، تعيد طهران تدوير رموزها القديمة للتغطية على الحاضر. ومع استمرار العقوبات، سيتحوّل هذا المسار إلى عبءٍ ثقيل على النظام نفسه، لأن سردية الحصار الخارجي لم تعد مقنعة لشعبٍ يرى أن أزماته من صنع الداخل وليس الخارج.
أمام هذا المشهد، يبدو أن إيران تقف عند مفترقٍ تاريخي: إما أن تؤسس شرعيةً جديدةً قائمةً على المواطنة وتحسين شروط الحاضر، أو تستمر في الاحتماء بالأسطورة حتى تنفد طاقة المجتمع. القومية قد تمنح النظام مهلة زمنية قصيرة، لكنها لا تبني استقراراً ولا تصنع مستقبلاً. ومع تصاعد الأزمات المعيشية، ستتقدّم الأسئلة الكبرى: لمن تُدار هذه الدولة؟ ولأي غايةٍ تُضحّى كل يوم بحاضرها؟
وفي الجهة المقابلة من الخليج، يتجسّد التحدي الأكبر لإيران في النموذج السعودي الصاعد. فبينما تنكفئ طهران إلى الماضي، تبني الرياض مشروعها الوطني على تحويل عراقة الماضي إلى وقودٍ هوياتي للمستقبل. المملكة لا تنكر جذورها ولا ترتهن لها؛ بل تستثمرها لتغذية مشروعٍ تنموي حديث يقوم على تمكين الإنسان، والتعليم، والانفتاح المسؤول على العالم. إنها دولةٌ رشيدة تستثمر في أبنائها قبل ثرواتها، وتعيد تعريف القوة بوصفها قدرةً على صناعة الفرص لا الأعداء.
هذا النموذج، الذي يجمع بين الهوية والسيادة والتنمية، يقدم درساً للمنطقة بأكملها: أن الشرعية تُبنى على رفاه المواطن لا على تعبئة الجماهير، وأن الماضي الحقيقي لا يُستحضر للحنين، بل يُستثمر ركيزةً للمستقبل. وبينما تستهلك طهران رموزها القديمة في خطابٍ دفاعي مأزوم، تمضي الرياض في بناء معادلةٍ متوازنة بين التاريخ والمستقبل، لتؤكد أن القوة في هذا القرن تُقاس بقدرة الدول على تحويل ماضيها إلى مشروعٍ تنمويٍّ حي، لا في قدرتها على الهروب من حاضرها.