: آخر تحديث
إصدارات

عبد الكريم البليخ في "بكاء الحقل الأخير"... ثلاثون قصة عن الأرض والمنفى

11
9
9

إيلاف من فيينا: المجموعة قصصية "بكاء الحقل الأخير"، باكورة أعمال الكاتب والصحافي السوري عبد الكريم البليخ، تضم بين دفتيها 30 قصة تنبض بين رائحة التراب وملح الغربة؛ بالبساطة والصلابة ينسج من خلالها ملامح أناس جعلوا من الأرض امتداداً لكرامتهم، ومن الذاكرة وطناً حين ضاق الوطن، كاشفاً بشاعرية واقعية عن شجاعة الطيبة في مواجهة قسوة القوانين وتحولات المنافي.

المجموعة القصصية تُصغي إلى أصوات الناس في قراهم وأزقتهم، كما في منافٍ بعيدة. تتجاور في هذه الحكايات مصائر متنوّعة لشخصيات بسيطة وصلبة: فلاح يجعل من الأرض امتداداً لكرامته، عائد من المنفى يبحث عن بيت يستعيد فيه نفسه، امرأة مجهولة تقاوم بصمت، وقلوب تمتحنها الخيانة والندم. من اليوميّ العابر يستخرج الكاتب جوهراً أخلاقياً لامعاً، ويرفع التفاصيل الصغيرة إلى مستوى الرمز، حيث تصبح الأرض هوية لا ملكية، والذاكرة وطناً حين يضيق الوطن.

ألم يولد إبداعاً
كتبت قصص هذه المجموعة بلغة رشيقة مشربة بحسٍّ تصويري، تمزج بين رهافة شعرية وبصيرة واقعية، وتؤثث عالماً يواجه فيه الناس رخام الإدارات بحجارة الحقول، ويستبدلون الشعارات بفعل نزيه وعنيد.

"بكاء الحقل الأخير" الصادر عن "دار سامح للنشر" في السويد، كتاب عن معنى الثبات حين تتبدل القوانين، وعن شجاعة الطيبة حين تُستدرج إلى الصمت. إنه احتفاء بمن يدافعون عن الكرامة والوجود، ويصونون ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش: الأرض، والذاكرة، والصدق. مجموعة قصصية تخاطب القلب والضمير معاً، وتترك في النفس أثراً لا يزول.

وعلى هامش صدور باكورة أعماله القصصية، التقت "العرب" الزميل الكاتب والصحافي عبد الكريم البليخ، حيث يقول: "المفارقة أنَّ الغربة لا تمنحك امتياز الكتابة فقط، بل تفرضها عليك. تصبح الكلمة ملاذك، ولغتك الأم تصبح طوق نجاة في بلاد تتحدث بلغة أخرى. وسط الجدران التي لا تفهمك، تصبح لغتك بيتك الأخير".


غلاف كتاب "بكاء الحقل الأخير"

ويضيف "هناك، على الورق، تستطيع أن تقول من أنت، ومن كنت، ومن تحاول أن تكون. وهكذا تحوّلت الغربة إلى محرّضٍ لا يرحم على الكتابة، وإلى ضرورة تشبه الخبز والماء، لا يمكن الفكاك منها دون جوع داخلي أو اختناق".

ويتابع "مع أنني كنت أتنقّل في بلاد قد لا تجمعني بها روابط سابقة، إلا أن الصحافة فتحت لي الأبواب، وعرّفتني إلى وجوه صنعت ذاكرتي المهنية والإنسانية. كان اتصالي في ذات يوم وأنا شاب صغير برجاء النقاش، ذلك العرّاب النقدي والإنساني، تجربة أثّرت فيّ على نحو لم أستطع تجاوزه حتى اليوم. أحاديثنا الهاتفية، ومتابعته لمقالاتي في مجلة "الدوحة"، كانت تذكيراً بأن الكتابة، مهما اغتربت، لا تموت. وفي قطر، حيث عملتُ لاحقاً في صحيفة "الشرق"، تعلّمت من الصحافة وجهها المهني الصلب، واحتككتُ بكبار الصحفيين الذين شكّلوا لي خبرة جديدة في التعاطي مع الكلمة كمسؤولية، لا مجرد شغف".

عن تجربته الغنية في عالم الصحافة يقول البليخ "تجربتي، لم تكن رحلة مهنية فحسب، بل كانت نوعاً من التجلّي. الغربة عرّتني من الزوائد، ومنحتني فرصة الانصات لما هو جوهري. فتحت لي أفقاً جديداً في الرؤية، وطوّرت فيّ حسّ الملاحظة، وعزّزت قيمة الدقّة، والتقاط التفاصيل الصغيرة، تلك التي تصنع من النص حياةً. وربما هذا ما يميز كتابة المنفى: كونها أكثر عمقاً وصدقاً وألماً أيضاً".

ويبيّن في هذا السياق أن "الألم، في هذا السياق، ليس فقط نتيجة الحنين، بل هو مخاضٌ دائم، يعيد خلق الكاتب كل مرة. فالغريب، مهما طال به المقام، يبقى حائراً بين الانتماء والتكيّف".

وعما تعني له مدينة فيينا، والنمسا بصورة عامة التي عاش فيها تجربة غنية بعيداً عن سوريا بلده الأم، ومسقط رأسه الرّقة، يقول "فيينا، بكل جمالها، تبقى مدينة أقمتُ فيها كعابر، حتى وإن منحتني الأمان. فثمّة شعور غامض لا يفارقني: أن الهوية، حين تمضي بعيداً، لا تعود بذات النقاء. تظل مثقلة بالعبور، مخدوشة بالانتظار، ومجبولة بالأحلام غير المكتملة. لكنني، في المقابل، لا أستطيع إنكار ما أضافته الغربة لي كإنسان وكاتب. لقد تعلّمت فيها معنى الحرية، لا بمفهومها السياسي فقط، بل بالمعنى الوجودي لها: حرية السؤال، حرية التأمّل، حرية الاعتراف بأنني هشّ، ومتعب، وأن الكتابة هي طريقتي في التماسك. هي ترميم للذات، ومقاومة ناعمة ضدّ التفكك الداخلي".

وعن نشاطه الصحفي يقول "لقد نُشرت لي في السنوات الأخيرة مقالات وتحقيقات في صحف ومجلات عربية كثيرة، بعضها في لندن، وبعضها في الخليج، وبعضها في مطبوعات ثقافية رصينة كـ "العربي" الكويتية. هذا الامتداد في النشر، لم يكن فقط دليلاً على الاستمرارية، بل على أنَّ الكتابة تخلق جغرافيتها الخاصة، وجمهورها الخاص، وتوقها الخاص للخلود".

واليوم، كما يشير "بعد أكثر من ثلاث عشرة سنوات في المهجر، يمكنني القول إن الغربة لم تكن زمناً ضائعاً، بل كانت زمناً موازياً. زمناً تعلمت فيه كيف أكتب نفسي كما هي، بلا رتوش، ولا مواربة. كيف أمارس مهنتي كهواية، وهوايتي كهوية. كيف أعيش في الشتات، من دون أن أفقد الإيمان بالمركز الأول: الرّقة، المكان الذي بدأ منه كل شيء، وسيعود إليه كل شيء، ولو حتى عبر اللغة".

الكتابة قارب حياة
الكتابة، كما يؤكد الزميل البليخ "لم تكن يوماً مجرّد حرفة، بل طريقة عيش. إنها العباءة التي احتميت بها في الغربة، وهي التي حملتني عندما تعبت الطرق، وخذلتني المدن. وهي أيضاً القارب الذي عبرت به نهر الاغتراب، وجعلت من منفاي فسحة إبداع لا سجناً. وربما هذا ما أود أن أُختتم به: أن الغربة لا تقتل، كما يُشاع، بل تصهر. تصهر النفس في لهب التجربة، وتعيد تشكيلها على نحوٍ أكثر لمعاناً وصدقاً وحنكة. الغربة تصقل القلب، والكتابة تمنحه القدرة على النبض من جديد. وبين الاثنين، هناك حياة تستحق أن تُعاش، ولو بالحبر".

نشير إلى أن عبد الكريم البليخ، وهو كاتب وصحافي سوري ولد في مدينة الرّقة عام 1967. درس القانون في جامعة بيروت العربية، لكنه اختار الصحافة مهنة فأصبح عام 1993 عضواً في اتحاد الصحفيين السوريين وكتب في العديد من المجلات والصحف العربية. في العاصمة النمساوية فيينا، أسّس عام 2024 "المركز العربي للإعلام والثقافة"، وأدار مجلات عدّة جمعت بين الفكر والرياضة، أهمها "المزمار"، "الصقر"، و"أقلام".

يصدر له قريباً: "أرض تأكل نساءها"، "مع المثقفين الجدد"، "أصوات في العلن"، "محطات للتأمل"، "من جعبتي الصحفية"، "سلاطين أهل الكذب"، و"أرواح الأمكنة".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات