: آخر تحديث
نقد أدبي

الشعر المنثور... إسفينٌ في جسد الشعر!

2
1
1

أنا قارئ يتجوّل بين الصحف اليومية، والمواقع الإلكترونية، والدوريات الثقافية، وما أكثرها في هذا الزمن المفتوح على كلّ شيء. أقرأ ما تنشره دور النشر من دواوين جديدة لشعراء شباب يتطلعون إلى تقليد الكبار، لكنّني كثيرًا ما أتوقف مشدوهًا أمام نصوص يُراد لها أن تُسمّى شعرًا، فيما لا تحمل من الشعر سوى اسمه. نصوصٌ خاوية لا تُمسك روحًا ولا تُثير في قارئها غير الحيرة والخذلان.

لقد صار ما يُسمّى بالشعر المنثور ـ في رأيي ـ وليد عجزٍ لا وليد موهبة، طفرةً لا تحمل بشارة، بل تهديدًا لمكانة اللغة وبهائها. فبدلًا من أن يكون الشعر جسرًا إلى الأعماق، صار عند بعضهم هذياناً مبعثرًا يُغرق القارئ في فراغٍ مملّ، حتى غدا هذا اللون أشبه بإسفين يُدقّ في جسد شعرنا العربي، مهددًا إرثه العريق بما لا يليق به.

إنّ خطورة الظاهرة لا تكمن في وجودها فحسب، بل في تضخّمها بلا معايير، حتى أصبحت سوق الأدب مشغولة بما هو غثّ أكثر مما هو سمين. غياب الوزن لا يضير الشعر إن كان النص مفعمًا بروح الشعر ودهشة الصورة، غير أنّ ما نراه اليوم ليس تحرّرًا من قيود العَروض، بل تخلّيًا عن جوهر الشعر نفسه: الإيقاع الداخلي، حرارة العاطفة، وموسيقى الكلمة.

علينا أن نكون منصفين: فما يُكتب تحت لافتة "الشعر المنثور" قد يَضمّ أحيانًا نصوصًا بديعة، لكنها نادرة كالومضة في عتمة واسعة. والنادر، كما يقول الفقهاء، لا حكم له. لذا، لا بأس أن نُدرج هذه المحاولات في خانة "النثر الفني"، أو أن نعدّها لونًا من ألوان الكتابة الحديثة، لكنّها تظلّ بعيدة عن مقام الشعر الذي عرفناه وتغنّينا به عبر قرون.

إنّ مسؤوليتنا اليوم أن نحمي الذائقة من هذا السيل الجارف من النصوص المبتورة، وأن نُعيد الاعتبار للشعر الحقيقي، ذاك الذي يُلامس القلب، ويُشعل الوجدان، ويُعيد للغة ألقها المفقود. يبقى السؤال قائمًا: هل يمكن للشعر المنثور أن يتحوّل إلى تجربة صادقة تمسّ الروح، أم أنه سيظلّ إسفينًا مغروسًا في مستقبل أدبنا العربي لم نستطع انتزاعه بعد؟

يقول أحد الشعراء الشباب المتحمّسين لشعرهم:

في سريري

لوحٌ خشبي مبتلٌّ

يقول إنه من حطامِ مَرْكبٍ

المسكينُ لا يعلم

أنه ضلعي الممزق

وأنا.. من أنا؟

سبع درجاتٍ إلى أعلى

ولم أفهم الغرقَ

**

وتقول شاعرة:

مشواري بعيوني المها.

المتعب طويلًا..

وأنا أقرأ لك ديوانك وما خضته

في عراك مع الكلمات.

ولكن عبث

وأنا أرى بها جلدك للذات..

من رؤوس الأقلام النافقات

تنشد من بردى سواقيه.

ويتدلل بآفاقه عليك الفرات

لو كنت ذا جبل.

ما كنت بالوادي تتسلق الأمنيات.

ولا كنت في الحضور رسمًا.

تنجو بألوانك المنمنمات.

رأيت الحب مطيرًا.

ورأيت الحبر طيرًا يلوذ برتل الأمسيات

فغناء الروح تلهث به ورودًا.

كما يدثره ربيعًا فاق فصولًا شاكيات

قرأت عنوانًا لو كان معطفًا

لما ساقه بردًا ولا كان يرتجف من سائلات

عنوانك لم يصل طريقًا لينتهي فردوسًا

بل ضل بين السطور راحلًا بالخاتمات.

**

وتقول أخرى:

حين يصيرُ

العطرُ مطرًا

مكسورَ الرّنينِ

أتفقّدُ أصابعي

العالقةَ على صوتِكَ

كالشّتاءِ الأخيرِ

وأنتَ تفيضُ

في عينيّ

أَمضي إليّ

أحملُ قلبي

ألتصقُ بعزلتهِ السّحيقةِ

ك وطنٍ منتهي الصّلاحيّة.

**

وترتل ثالثة:

مشواري بعيوني المها.

المتعب طويلًا..

وأنا أقرأ لك ديوانك وما خضته

في عراك مع الكلمات.

ولكن عبث

وأنا أرى بها جلدك للذات..

من رؤوس الأقلام النافقات

تنشد من بردى سواقيه.

ويتدلل بآفاقه عليك الفرات

لو كنت ذا جبل.

ما كنت بالوادي تتسلق الأمنيات.

ولا كنت في الحضور رسمًا.

تنجو بألوانك المنمنمات.

ولعلّ ما نقرأه من شذراتٍ تُرفَع تحت راية "الشعر المنثور" لا يعدو أن يكون أنينًا متكسّرًا يبحث عن صوته الضائع، أو محاولاتٍ يائسة لالتقاط صدى الروح في فراغٍ بلا جرس. إنها أصوات متعثّرة على عتبة الشعر، تتزيّا بلباسه من دون أن تحمل جوهره، فتغدو أشبه بظلالٍ لا ملامح لها. ومن هنا تكمن خطورة هذا المسار: إذ يختلط فيه الصادق بالزائف، والبحث الحقيقي بالادّعاء.

غير أنّ الشعر ـ في حقيقته ـ سيبقى عصيًّا على الانكسار، يظلّ متجدّدًا ما دام هناك من يكتب بدم القلب، ويمنح الكلمة دفء الروح. فالشعر ليس وزنًا وقافية فحسب، وليس نثرًا متفلتًا يلوذ بالفراغ، بل هو ذلك الوميض الذي يوقظ فينا الإنسان، ويعيد إلى اللغة طهارتها الأولى.

ويبقى الرهان معقودًا على وعي القارئ وتمييزه، وعلى الأصوات الصادقة التي لا تزال تنسج من الكلمة جناحًا للطيران. أمّا ما سواه، فسرعان ما يتساقط كغبارٍ في مهبّ الريح، ويظلّ الشعر الأصيل وحده باقيًا، عصيًّا على أن يُختَزَل في تجريبٍ أعرج أو ادّعاءٍ فارغ!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات