اتخذ أغلب المفكرين العرب وتابعيهم موقفاً رومانسياً من فكر رواد النهضة الغربية، وتعلقوا بنظرياتهم تعلقاً استلابياً نتيجة الكبت القهري الذي يعيشونه جراء شعورهم بالهزيمة الحضارية، وبالخواء الفكري المهيمن على نمط إنتاج العرب وثقافتهم، وهم لا يختلفون في استلابهم وتعلقهم الرومانسي بتلك النظريات عن مفكري الأمم الأخرى ومجتمعاتهم لانبهارهم بالتقدم الحضاري الذي كان محركه تلك الأفكار، وتغافل الفريقان عن نقد النفاق الثقافي الذي أنتجه رواد النهضة، بالرغم من صدمة الجميع بالتوحش الذي انتهت إليه الحضارة الراهنة، لكن سطوة القوة فيها أرغمت الكثير على تقديس الفكر الذي قادها، وقد عرّى بول جونسون في كتابه "المثقفون" فساد الرؤية الرومانسية للمفكرين المتعامين عن النفاق الأخلاقي الذي كان ثقافةً مضمرةً في سلوك رواد فكر النهضة الغربية. لذلك قد يتراءى للكثير أن هذا العنوان تجليات خفة فكرية في نقد فكر النهضة الحضارية الغربية، أو هو وليد مخاصمة عاطفية سطحية للحضارة الغربية، أو نابع من دوافع نفسية يثيرها الانهزام الحضاري أمام ازدهار تلك الحضارات، لكن هذا العنوان يحمل حقيقةً معرفيةً وفكريةً مسكوتاً عنها في نقد فكر النهضة الغربي، تعامى مستوردو الفكر الغربي عنها إما جراء العمى الحماسي، أو مواربة لعقدة النقص الحضارية التي يعانيها الفكر العربي ورواده، وإما نتيجة سطوة الحضارة التي نتج عنها ذلك التفكير. فليست القوة الحضارية دائماً مصاحبة للضياء الإنساني والحق والعدالة، بل غالباً ما تكون الحضارات العظيمة طاغوتية إلغائية إقصائية، وتلك بداهة لم تخل منها حضارة سادت، لكن الطاغوت المضلل الجارح للإنسانية في صميمها أن يكون المثقف المؤسس لفكر الحضارة طاغوتاً في سلوكه، فقير الأخلاق والقيم في ممارسته الحياتية، ثم يتصدر لإنتاج فكر مناقض لسلوكه وقناعاته في نفاق يموه عوراته الإنسانية.
تبدأ حقيقة لا أخلاقية المثقف بانصهاره السياسي، وتحويل أفكاره إلى قواعد سياسية تُبنى عليها الحضارة، ويثير هذا الكتاب تساؤلاً صادماً عن أهداف المثقفين، إذ تتوارى حقيقتهم في اتخاذ الثقافة قناعاً يمارسون خلفه دجلاً سياسياً، والسياسة أخلاقياً هي الغربال الذي يُنقل به الماء. فالكتاب المذكور يعرض للمفكرين الذين شكلوا فكر النهضة بدءاً من أواسط القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين مثل جان جاك روسو، وبيرسي شيلي، وكارل ماركس، وتولستوي، وهمنجواي، وغيرهم من أعلام الأدب والفكر العالميين، وينطلق مؤلف الكتاب من التساؤل حول الخفايا الكامنة وراء تحول بعضهم من التفكير الكنسي الغربي والشعوذة الغيبية إلى التفكير الحداثي، وكيف سطوا على تفكير المجتمعات واستولوا على عقولها، وهل كانوا ممن يحترمون الحقيقة، ويتحلون بالصدق، ويلتزمون بالمبادئ التي نادوا بها في كتاباتهم. ويكشف جونسون من خلال رصده لمرجعية أفكار كارل ماركس ودناءة سلوكه في الحياة عن أجلى صور النفاق الثقافي والتناقض بين القول والفعل، إذ كان ماركس أبرز مفكري القرن الحديث الذين أوهموا العالم بأفكار إنسانية وصلت إلى حدّ التقديس والتمجيد في مجتمعات تكاد تكون ربع سكان الكرة الأرضية.
فقد حظيت أفكار كارل ماركس بتأثير لم يحظ به غيره في القرنين التاسع عشر والعشرين، بسبب تطبيقها في أكبر دول المعمورة مثل الصين وروسيا، ويرى جونسون أن ماركس الذي نشأ في عصر فلسفة العلم لم تكن أفكاره علمية، فقد كان يعتقد أنه وجد تفسيراً علمياً للسلوك البشري، ووصفُ ذلك بالعلم خرافةٌ أكيدة، حيث ضمّن أبحاثه فكراً تلمودياً استله من ثقافته التوراتية. فماركس نشأ في أسرة يهودية وتخلى عن ديانته إبان صدور قانون بروسيا سنة (1816) الذي يمنع اليهود من الترقي في مراتب الطب والقانون العليا، فاعتنق البروتستانتية، وعمّد أولاده في الكنيسة، ودرس اللاهوت، وأسهم في تأليف موسوعات تلمودية، وعند حصوله على الدكتوراه لم يشغل منصباً أكاديمياً في الجامعات، فامتهن الصحافة والعمل السياسي وشارك في كتابة البيان السياسي للثورة الشيوعية الفرنسية (1848)، لكنه هرب إلى إنكلترا، وعاش مدة أربعة وثلاثين عاماً متخفياً في مكتبة المتحف البريطاني إلى أن مات هناك، وكان يعمل في جمع مؤلفه "رأس المال"، الذي لم ينشره في حياته إلا مجلداً واحداً، ثم تولى صديقه فريدريك إنجلز نشر ما أنجزه.
وكان ماركس يصف نفسه بالآلة التي لا عمل لها إلا طحن الكتب، ولم يترك جونسون فرصة في سياق حديثه عن ماركس إلا نفى عن عمله صفة العلمية، ويردد: ماركس لم يكن عالماً حقيقياً على الإطلاق، فهو لم يكن يعنى بالبحث عن الحقيقة، كان شاعراً كتب مجمل نتاجه عن حبه لابنة الجيران، وكان شعره يتسم بنزعة التعالي والشؤم والكراهية للمجتمع، وكان يؤمن بحتمية دمار العالم، وكان في جل أعماله يدرس الأمور الراهنة ولا يعبأ بالمستقبل.
ويرجح جونسون أن إخفاق ماركس الأكاديمي يعود إلى أسلوب نقده لتفكير هيغل، ويصفه بأنه ينقصه شيء واحد هو الدافع الأخلاقي الذي يسوغ سعيه الدائب ليكون باحثاً أكاديمياً، ويكشف جونسون تجليات النزعة اليهودية التلمودية المضمرة في فكر ماركس في سياق جدله مع تلامذة هيغل، إذ رد ماركس على مقالة "برونو بوار" التي تدعو اليهود إلى التخلي عن ديانتهم حتى ينسجموا مع المجتمعات التي يعيشون فيها، فنفى ماركس أن فكرة عداء اليهود للمجتمعات التي يعيشون فيها نابعة من أسباب عقدية، والانسجام يكون في وأد الشر المتمكن من نفس اليهودي، بوصفه نزعة في طباعه ناشئة من عوامل اجتماعية واقتصادية وليس من الدين والعقيدة، وقال ماركس: "المال هو الإله الضنين لإسرائيل، ولا إله غيره، المال يذل كل آلهة البشر ويحولهم إلى سلع كمالية...".
دأب ماركس على نقض ادّعاء أن مرجعية الفساد تعود إلى سيطرة اليهود على المال واستلاب البشر لسطوة أموالهم، وحمّل الطبقة البرجوازية مكيدة الفساد، لذلك انحرف إليها بنقده، ووجد أن الإصلاح يكون بتقوية الطبقة العاملة وهي محور فلسفة ماركس، ومن المريب أن هذه الفكرة ذات مرجعية تلمودية، وحقيقة توارتية محضة تقول: إن خلاص البشر سوف يكون على يد الطبقة العاملة، ومن المريب أكثر تغافل النقد الفكري عن المرجعية التوارتية للماركسية.
ويكتب جونسون في ختام حديثه عن ماركس: "لقد عاش ماركس حياته يتفانى في الدفاع عن الطبقة العاملة، وهو الذي كان يستخدم في بيته عاملة اسمها هلن ديموت ولم يكن يفيها أجر خدمتها"، وتدل هذه الحادثة على الزيف الصارخ الذي يمارسه ماركس، فكيف لمفكر يدّعي الكفاح من أجل الطبقة العاملة أن يسرق أجر عاملة مسكينة؟ والأفكار التي أنتجها ماركس كانت نفاقاً ثقافياً، لأنه أكثر من خالف تطبيقها ودعا البشرية إلى الالتزام بها.
واستعرض جونسون التناقضات التي انطلق منها روسو الذي عاش زمن الصراع بين الفكر الخرافي والفكر العقلي في فرنسا، فنادى بأفكار تربوية تدعو إلى التخلص من النفاق الاجتماعي الذي عمّ فرنسا، وكان الناس يخضعون لمبدأ القوة، قوة المال وقوة الجسد، ورأى أن الحق يكون حيث تكون القوة، وعزا ذلك إلى مرض نفسي يفصم الظواهر عن الحقيقة، وانتهى إلى أن سلوك الإنسان تحققه ثقافته لا ثروته أو مكانته الاجتماعية، وأن تغيير السلوك يكون بتغيير ثقافته، وذهب جونسون إلى أن روسو لم يكن يبدع أفكاراً جديدة بل كان يجمع أفكاراً سادت في عصره، وإنما اكتسبت أهميتها من صوغه الأدبي الفذ لها، ولأنها تحمل الإثارة الصادمة، فأكثر من التغني الوقح بقضايا جنسية، والدفاع عن الرذيلة المقيتة، وتمجيد نكران الجميل وتقديس النرجسية، وكان سلوكه في حياتيه يجسد تناقضاً صارخاً للقيم الأخلاقية التي يدعو إليها في كتاباته، فقد كتب السفير الفرنسي في فنيسا الذي عمل عنده روسو سكرتيراً: "روسو رجل مكتوب عليه الفقر حتى الممات بسبب ميوله الحقيرة ووقاحته المتناهية المتأصلة في نفسه"، بينما كتب روسو عن نفسه: "أنا رجل خُلق ليحبه الناس، عاش طيلة حياته يبشر بالحب، ويعلّم الناس أن يحب بعضهم بعضاً".
والحقيقة التي يرصدها جونسون في سلوك روسو تناقض ما يدّعيه، فقد كان روسو لا يعني له أبوه إلا ما يورثه من المال، فهو صندوق قيمته بما يحتويه من نقود، وأنكر فضل المرأة التي ربته وعطفت عليه "مدام دي واريتز" فتخلى عنها وماتت فقيرة منبوذة معدمة معوزة، بينما كان حينها غنياً فلم يقدّم لها أية مساعدة، وعُرف عن روسو استمراؤه الخيانة والتمتع بها، فقد عاش مع خليلة تحملت فظاظته وتقلبات مزاجه ثلاثين عاماً، فكتب عنها: "لم أشعر يوماً بالحب نحوها"، وكتبت هي عنه: "روسو كان رجلاً أحمق ولكنه يبعث التسلية"، وعُهد عن روسو أن أولاده جميعاً كانوا غير شرعيين، فلم يعترف بهم، ولم يمنحهم اسمه، وكان يتقصد رميهم أمام المشافي كي ينشؤوا لقطاء، وأشار كتاب سيرة روسو إلى أنه كثيراً ما ينصب الفخاخ للناس ويستدرجهم بالحديث عن عوزه، وحين يعرضون عليه المساعدة كان يشعرهم بالأذى، وعُرف روسو بشجاراته المتعددة مع الأكاديميين والمفكرين ونكرانه لما قدموه له، فتشاجر مع ديدرو، وجريم ومدام دييناي وفوليتير وترونكين، وكان يعيش وهم أن العالم يتآمر عليه شخصياً، وأن وزير خارجية فرنسا آنذاك "دو شوازيل" يقود تلك المؤامرة ويجنّد شبكة لتدمير حياته.
وسجل أحد الأكاديميين قائمة بعيوب روسو فقال: "مازوكي، محبّ للمظاهر، نوراستيني، وسواس مرضي، ممارسة للعادة السرية، شاذ، لحوح، عاجز عن الحب الأبوي، شديد الارتياب بالآخرين، نرجسي، شديد الانطواء، يملؤه الشعور بالذنب، جبان إلى درجة مرضية، مريض بالسرقة، صبياني السلوك، سريع الاستثارة، بخيل"، هذا الرجل صاحب السلوك الذي اخترنا غيضاً من فيض دناءة سلوكه وأخلاقه، هو الذي كانت أفكاره مرجعية الثورة الفرنسية، وهو أحد رواد الفكر التربوي.
تلك كانت مجموعة صور حقيقية عن حياة اثنين من أبرز قادة فكر النهضة العالمية الذين هيمنوا على عقول البشرية وممارساتهما، واستلبوها فوجّهوها في مسالك لا شك في أنّ تبنّيها أنتج حضارات بالغة القوة، لكنها قوة كانت دائماً مريبة في هيمنتها على العالم، وافتقارها إلى الأخلاق بسطوتها الاستعلائية، وكانت ممارسات هذه الحضارات على المستوى الإنساني تثير الريب في تبنّيها شريعة الغاب، التي تشرعن حق المخالب في انتزاع الأرواح، والآخر بالنسبة لها فريسة تسوغ لها قوتُها المتوحشةُ شرعنة افتراسه بكل الطرق، ولا يختلف حتى الذين يقدسون فلسفة النهضة الغربية في أنها أنتجت حضارة متوحشة ناقصة أخلاق وقيم إنسانية.