: آخر تحديث

السينما.. ذاكرة حضارية

1
1
2

الفنّ في جوهره وبُعده الفلسفي هو بحث الإنسان عن المعنى عبر الجمال، وقيمته الحضارية أنه يحوّل التجربة الإنسانية في كافة تجليّاتها إلى وعي مشترك يُخلّد روح الأمّة ويهذّب ذائقتها. ومن هنا جاءت النظرة الواعية والعميقة إلى الفنّ على أنه نشاط إنسانيّ يتجاوز الترف، ليغدو طريقة للإنسان في أن يرى العالم كما يجب أن يكون، لا كما هو. فهو البصيرة الفاحصة التي ترصد، وتلتقط ما لا يُرى، وتمنح الإنسان قدرةً على إعادة ترتيب الفوضى الداخلية للعالم في إيقاعٍ منسجمٍ بين الحسّ والفكر، بين المتخيَّل والواقع.

ومن هنا يمكن استيعاب قيمة السينما ودورها في قدرتها على تجسيد هذا المعنى، إذ إنها تملك القُدرة على تجميع الأزمنة في لقطة، كما أنها تمتلك القدرة على القبض على الزمن وتكثيف الذاكرة في صورة، ومن ثم تعيد تشكيل المعنى في حركة ضوءٍ وصمتٍ ودهشة.

ومنذ أن فطن الإنسان لهذه المزيّة العظيمة للفن، وللسينما تحديداً، أيقن بأنها قادرة على أن تمنحه كإنسان دوراً يتجاوز الاكتفاء بالفُرجة على العالم، بل إنها -أي السينما- تمنحه فرصة أن يكون شريكاً فاعلاً في صناعة هذا العالم.

ومن يتتبّع هذا الفن السينمائي عالمياً، يلمس تأثيره الحضاري والثقافي على المجتمعات، وكيف يمنحها فرصة التأمل في الوجود عبر مشهد سينمائي، قد يراه البعض عميقاً ومؤثراً بدرجة لا تقلّ عُمقاً عن نصٍّ فلسفي أو لوحةٍ خالدة.

وبهذا التصوُّر، وبهذه الرؤية لم تعد السينما –كما يراها الأغلبية- مجرّد فنٍّ جماهيريٍّ، بل خطاباً معرفيّاً وحضاريّاً يُعيد مساءلة القيم، ويصوغ ذائقة المجتمعات وطريقتها في النظر إلى الجمال والعدالة والمعنى.

اليوم؛ في المملكة تأتي الثقافة بزخمها الفكري والثقافي، وبحمولتها المعرفية والإنسانية لتصوغ مشهداً حضارياً لافتاً، وتنضوي السينما بين تلابيب هذا المشهد لتنصّع هذا المشهد، وتزيد من رونقه، كل هذا، ونحن نستصحب معنا مُمكّنات رؤية عظيمة، رؤية جعلت من الثقافة نمط حياة لا مجرد نشاط ترفي عابر وزائل.

ووفق هذا الحراك الثقافي الزاخر، يتواصل حضورنا العالمي عبر الكتاب، والموسيقى، والفيلم، والسينما، والرقصات الشعبية، وكل مكوناتنا الثقافية والحضارية.

وما انطلاق منتدى الأفلام السعودي 2025 برعاية سموّ وزير الثقافة، إلا علامة على وعينا الثقافي والحضاري بدور الفن في بناء الوجدان الجمعي؛ ولذا يتأكد عبر هذا الحضور الساطع بأن السينما هنا ليست مشروعًا اقتصاديًا فحسب، بل مشروع إنسانيٍّ يُعيد الاعتبار لقيمة الحلم والتأمل، ويضع الفن في مكانه الطبيعي: في قلب الحضارة لا على هامشها.

وفي ظلّ هذا الزخم من الحضور الدولي لصنّاع السينما والأفلام، تتجاور التجارب، وتتلاقح الثقافات، لترسل رسالة للعالم يؤكدها متعاطٍ للفن السابع: أن الفيلم بصدقه الجمالي لغة إنسانية مشتركة، ومختبر وحاضن للأفكار، والتعبير الجمالي عن الهوية والقيم الإنسانية والجمال، وأن الأُمم المتحضّرة هي من تولي الفن والجمال والإبداع الاهتمام والاحتفاء الذي يليق بها كمضامين لا تقبل التنازل أو الركون على الهامش.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد