: آخر تحديث

حين يوقظ الآخر نارك الهادئة..!

1
1
1

نجيب يماني

يقول كارل غوستاف يونغ إنّ اجتماع شخصين يشبه التقاء مادتين كيميائيتين إن وُجد تفاعل تحوّل كلاهما.

فاللقاء الحقيقي بين البشر لا يترك أحداً كما كان، فكل علاقة تُغيّر شيئاً فينا، مهما كانت مدتها أو شكلها.

كلام يحمل بُعداً نفسياً دقيقاً؛ فالعلاقات ليست مجرّد تبادل للمشاعر، بل مختبر داخلي تُختبر فيه ذواتنا.

من نلتقيهم لا يمرّون بنا مروراً عابراً، بل يحرّكون عناصر كانت ساكنة فينا، فتتبدّل صورتنا عن أنفسنا وعن العالم.

بعض التفاعلات تُخصب الروح، وبعضها يترك ندبة لا تروح، لكنّ كليهما جزء من عملية التحوّل.

في جوهر الفكرة، الإنسان لا يُبنى وحده، بل عبر أثر الآخرين فيه، كما تتكوّن المادة من تفاعلها مع غيرها.

ما قاله السيد يونغ ليس مجرد استعارة فلسفية، بل مفتاحٌ لفهم أسرار الوجود الإنساني. فكل لقاء بين روحين هو تجربة كيميائية داخل المعمل العظيم للحياة، تُشعل فيها شرارة غير مرئية فتُعيد ترتيب عناصرنا الداخلية.

لا أحد يعبر حياة أحد دون أن يترك فيها أثراً أحياناً يكون الأثر بصمة ضوء، أو نافذة أمل، وأحياناً حرقة قلب أو آهة ألم وكل واحدة توقظ شيئاً كان نائماً في أعماقنا.

العلاقات في جوهرها ليست ممرات عاطفية عابرة، بل عمليات تحوّل كيميائي للنفس. نحن لا نحبّ فقط، بل نتفاعل. لا نكره فقط، بل نتبدّل.

كل كلمة، كل نظرة، كل همسة كل لمسة كل اقتراب، تعمل فينا عمل المذيبات والمحفّزات والمسرّعات. هناك من يضيف إلى كياننا عنصر النقاء، وهناك من يختبر فينا قدرة الصمود، وهناك من يفتح نوافذ كانت مغلقة في وعينا، فنرى العالم بعين جديدة لم نكن نعرفها فينا.

مع كل لقاءٍ جديد، نكتشف أن الآخر ليس مجرد شخصٍ نعرفه، بل مرآة تكشف وجهاً من ذواتنا لم نره من قبل.

بعضهم يُظهر ضعفنا، وبعضهم يُفجّر قوتنا، وبعضهم يُعلّمنا حدودنا، وآخرون يُعيدون إلينا يقيننا بأننا خُلقنا لنمنح الحبّ والمعنى والجمال.

اللقاءات الحقيقية لا تتركنا كما نحن، لأنها تمسّ جوهرنا. بعد كل تفاعل صادق، يتغيّر ترتيب عناصرنا النفسية، كأننا خرجنا من تجربة صهرٍ داخلي.

من هذه التجارب نكتسب صفاءً، أو نُصاب بخدوش، لكننا في الحالتين نقترب أكثر من صورتنا الأصلية تلك الصورة التي خلقها الله فينا قبل أن تعكرها التجارب والمخاوف والأقنعة، فما من روح تمرّ بك عبثاً.

كل عابر في حياتك هو رسالة، كل نظرة اختبار، كل صمت إشارة.

نحن نتعلم عبر الآخرين كما تتعلّم الشجرة من الريح كيف تثبت جذورها، وكما يتعلّم النهر من الصخور كيف يشقّ طريقه برفقٍ وعنادٍ وتصميم

في كل تواصلٍ صادق، ثمة طاقة خفية تشبه الضوء الأبيض حين ينكسر على الطيف. فالعلاقة تكشف تنوّع ألواننا النفسية، ما نخفيه من خوف، وما نحمله من حب، وما نحلم به من خلاص. إنّها التجارب التي تُعيد تعريفنا لأنفسنا، وتذكّرنا أننا لسنا جماداً من عاداتٍ وسلوكيات، بل كائناتٌ قابلة للتحوّل الدائم.

وهنا سرّ الحياة أننا لا نُخلق مرة واحدة، بل نُخلق من جديد كلما تفاعلنا بصدقٍ مع إنسانٍ آخر، ومع كل تجربة تذيب جمودنا وتعيد تشكيلنا على صورةٍ أعمق وأجمل.

إنّ الأرواح التي تمرّ بنا ليست صدفة، بل أدوات الخالق في إعادة صهرنا بالنور، فليكن لقاؤك بالناس مختبراً للحكمة، لا ميداناً للحكم.

ولتنظر لكل من عبر حياتك كرسول معنى، جاء ليُتمّ فيك تجربة لم تكتمل ويسقيك سُلاف الحياة لتستمر، فربّ تفاعلٍ بسيطٍ غيّر مجرى نهرٍ في أعماقك دون أن تدري، وربّ كلمةٍ قصيرةٍ أيقظت فيك جناحاً كان نائماً.

وفي نهاية المطاف، عندما نتأمل مسيرة العمر، نكتشف أن كل ما مرّ بنا من فرحٍ وألمٍ، من وصلٍ وافتراقٍ من حنان وقسوة لم يكن إلا سلسلة من التفاعلات المقدّسة التي صاغت وعينا وشكّلت أرواحنا، وجعلتنا أكثر نقاءً ونضجاً وقرباً من حقيقتنا.

ذلك هو التفاعل الأسمى أن يتحوّل الإنسان بالإنسان، حتى يغدو كل منا شعاعاً في منظومة النور الكبرى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد