: آخر تحديث

حين يملكنا ما نظن أننا نملكه

3
2
2

محمد ناصر العطوان

أيها السائرون على حافة الوجود، هل رأيتم قط ذلك «الحاجز الأسود» الذي ننسجه بأيدينا من خيوط الأشياء؟ ذلك الغشاء الذي نسميه «ملكية»، نلتف به حول أعناقنا ظانين أنه حُلة مجد، وهو في حقيقته طوق عبودية يخنق الروح، ويُعمي البصر عن جوهر الحياة!

ها نحن أولاً، نُقيم صروحاً من الطين والحجر، ندعوها «بيوتاً»، فإذا بها تُصبح قبوراً لأحلامنا، تُثقل كواهلنا بأقساطها وأثاثها وصيانتها، فنعيش أسرى بين جدرانها، خائفين عليها من عوادي الزمن واللصوص، ناسين أننا نحن - في الأصل - لصوصٌ سرقوا الأرض من نفسها! ونشتري الثياب الفاخرة، فنظنها زينة لأجسادنا، وهي في الحقيقة أصفاد تُكبل أرواحنا بخيط حريري ناعم، يربطنا بسوق الأزياء، وبحساب البنك، وبصورة وهمية في مرآة المجتمع. حتى الكتب التي نقتنيها بشراهة الجائع، تُصبح أحياناً ركاماً من الورق المُكدس يشهد على جهلنا لا على علمنا، لأننا امتلكنا الغلاف وفاتنا جوهر الحكمة بين السطور.

إن «التملك» يا سادتي، ليس سوى وهم عظيم ندفع ثمنه من حريتنا. وكل قطعة نمتلكها عزيزي القارئ، تُصبح حلقة في سلسلة تُقيد خطانا، وتستنزف طاقاتنا بالخوف من الفقدان، والجشع للمزيد، فنصبح عبيداً لِمُتعتنا، سجناء لراحتنا، حراساً أشدّاء لخزائن تزداد امتلاءً وقلوبنا تزداد فراغاً... بالله عليك أليست هذه هي المأساة الأبدية؟ أن نُصبح حرّاس قبور لما نظنّه كنوزاً، وهي في الحقيقة أحجارٌ على طريق رحلتنا إلى السماء!

ولكن، أين المخرج من هذا المتاهة التي بنيناها بأنانيتنا؟ المخرج في كلمات نورانية نزلت من علٍ، تقول: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (آل عمران: 92).

انظروا إلى عمق هذه الآية! فهي لا تتحدث عن فضيلة عابرة، بل عن شرط جوهري للبرّ، للخير الأصيل، للتحرر الحقيقي.. إنها تقول: لن تذوقوا حلاوة البرّ الحقيقية، ولن تتحرروا من سجن ذواتكم، حتّى تنفقوا مما تحبّون، لا مما تزهدون فيه أو تستغنون عنه.

إنها دعوة للتضحية بالغالي، للانعتاق من سطوة التملك... إنفاق المحبوب ليس مجرد صدقة، بل هو ثورة على الأنا، وتحرير للقلب من تعلقه بالشيء، وإعلان أن ما في اليدين عارية، وما في القلب لله. الله - سبحانه - لا ينظر إلى حجم المنفق، بل ينظر إلى حجم التعلق الذي كسرته في نفسك عندما أنفقت ما تحب... وهو يعلم السرائر، يعلم تلك اللحظة التي انتصرت فيها روحك على شهوة تملكها، فتحررت.

وهنا، يأتي صدى كلمات شاعرنا محمود درويش، ليرسم صورة التحرر المطلقة:

«لا شيء أملكه فيملكني».

أن تكون خفيفاً كالضياء، لا تُثقلك أثقالُ المادة... أن تمتلك القلوب لا الحجارة، أن تمتلك الكلمات التي تُخلصلك من سقوط المعنى وجمود الزمان، أن تمتلك الحب الذي يُضيء ولا يُقيد. هذه هي الثروة التي لا تُستعبد لها، بل تتحرّر بها.

فهل نُدرك الدرس؟

إن البرّ الحقيقي، والحرية الأصيلة، لا ينزلان إلا عندما نكسر أصنام التملك في قلوبنا. عندما نُنفق مما نحب، لا لنُفقدَه، بل لنُحرّر أنفسنا من سطوته علينا. عندما نصير مثل الضياء، لا نملك شيئاً فيملكنا، بل نكون نحن، أرواحاً طليقة، تعبر هذه الدنيا زواراً كراماً، لا جبابرة مستعبدين لأوهامهم...

تلك هي العظة، وذلك هو الطريق إلى البرّ الذي وعد الله به من تحرّر من أغلال البريق... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد