محمد ناصر العطوان
اسمحوا لي بداية أن أمارس طقساً من طقوس النرجسية المحببة – ولو لمرة واحدة – وأن أبارك لنفسي، أنا محمد ناصر العطوان، قبول عضويتي رسمياً في صرح عريق بحجم «رابطة الأدباء الكويتيين»... هو خطوة أعتز بها، وشرف لا أدّعيه، ومسؤولية أُلقيت على العاتق... لكن، وكما يقولون في الأثر: «فرحةٌ مشوبةٌ بحذر»، أو دعونا نقول بلغة العصر: «فرحة ولكن...».
لماذا «ولكن»؟
لأنني، ومن خلال متابعتي للمشهد الثقافي عن كثب واشتباك من الخلف دون ظهور، وقبل أن أحمل هوية العضوية، ومن خلال عملي في الرابطة طوال العامين الماضيين، ومن خلال عملي في صاحبة الجلالة «الصحافة» طوال خمسة عشر عاماً، رأيتُ فيما يرى اليقظان وبأم عيني كيف يتحوّل «الانحياز» من مجرد ميل عاطفي بشري، إلى «معول هدم» يضرب في أساسات الثقافة ذاتها.
ليس فقط على مستوى الروابط والأندية ولكن أيضاً على مستوى المؤسسات الثقافية.
ودعونا نضع النقاط على الحروف «قبل ما نطلع معاً على الروف»، وأطلب منك عزيزي القارئ أن تعد لنفسك كوباً من الشاي بالنعناع، لأن جو المقال كلما صعدنا على «السطوح» سوف يكون بارداً... جهّز شايك الدافئ ثم تعال لإكمال هذا المقال.
منذ السطر الأول... أنا هنا لا أتحدث عن الانحياز لمدارس أدبية؛ فذاك انحياز محمود ومشروع... من حقك أن تنحاز للكلاسيكية ضد الحداثة، أو للواقعية ضد السريالية، فهذه معارك فكرية تُثرى بها الساحة وتنتج أدباً، وحتى الردح الثقافي بين المدارس الأدبية ينمي الفكر ويشعل جذوة الكتابة عند الآخرين ويترك مساحات جميلة للنقد والأخذ والرد، ولطالما كانت المعارك الأدبية ممتعة ومفيدة للأجيال الصاعدة والنشء الأدبي.
أما «الطامة الكبرى» التي أتحدث عنها، فهي الانحياز للأشخاص لا للنصوص، الانحياز لـ «الشلة» لا للمنهج، الانحياز لـ«صاحبنا» ضد «الغريب عنا».
لقد رأيت مواهب مدفونة انحازت لأشخاص ضد أشخاص، لعل أن يكون جزاؤها أن تظهر للعلن، فكان جزاؤها أن تدفن أكثر عندما خسر مَنْ انحازوا إليهم في المعركة... ورأيتُ مواهب شابة حقيقية، أقلاماً تقطر عذوبة وإبداعاً، تُدفن وهي حية، وتُغلق في وجهها الأبواب، لا لشيء إلا لأن أصحابها لم يقدموا «فروض الولاء والطاعة» لقطب من أقطاب الساحة، أو لأنهم رفضوا أن يكونوا «كومبارس» في مسرحية يقودها «المثقف الكبير».
وفي المقابل، رأيتُ فقاعات فارغة تُنفخ حتى كادت تنفجر في وجوهنا، وتُصدر لنا كرموز للأدب الكويتي، فقط لأنهم يجيدون فن «المجاملة»، ويتقنون الجلوس على الموائد الصحيحة، ويحفظون درس «امتدحني أمتدحك» أو «سويلي لايك اسويلك لايك» أو «أكتب عني زين، أكتب عنك زين»... وهو درس يحفظونه عن ظهر قلب. ورأيتُ أشخاصاً حادين جداً في نقدهم لما يكتب الشباب، نقداً ممزوجاً بالغضب واللعن، دون أن تدري هل هذه الحدة وهذا الغضب سببه فشلهم في أن «يكونوا ما أرادوه يوماً ما» أم فعلاً بسبب همهم الكبير تجاه الحالة الثقافية والأدبية!. والغريب أن الأعوام تمر وتمر ويبقى الغاضب كما هو دون أن يتحرك قيد أنملة للأمام، بينما مَنْ كان يلعنهم نجحوا وأصبحوا «ما أرادوه لأنفسهم يوماً ما».
يا زملاء الحرف، ويا أعضاء الرابطة الكرام...
إن أخطر ما يواجهنا اليوم ليس ضعف القراءة في المجتمع، ولا سطوة التكنولوجيا، بل هو الغرق في «المعارك الوهمية»... طاقات هائلة تُهدر في صراعات جانبية، ومكائد صغيرة، ونقاشات عقيمة حول «مَنْ قال ماذا»، و«مَنْ جلس مكان مَنْ»، ومَنْ لم يبارك لمَنْ ومَنْ لم يدعُ مَنْ!
معارك طواحين هواء لا تقتل ناطوراً ولا تحصل على العنب، ولا تنتج أدباً، بل تحوّل المؤسسات الثقافية من «منارات إشعاع» إلى «كانتونات مغلقة» يخشى المبدع المستقل الاقتراب منها لكي لا يحترق عوده.
نصيحتي لمجلس الإدارة الجديد... ألف مبروك النجاح في الانتخابات، ونصيحتي لنفسي أولاً، ولكل كاتب جديد يطأ عتبة هذا العالم... لا تكن جندياً في معركة شخص آخر... لا تجعل قلمك بندقية للإيجار في حروب الشللية. إن «رابطة الأدباء» ليست كعكة نتقاسمها، بل هي محراب نخدم فيه، قيمتك الحقيقية ليست فيمَنْ تعرفهم من الأسماء الرنانة، بل فيما تكتبه من كلمات صادقة.
الانحياز للأشخاص «مهلكة»... يحولك من مبدع حر إلى «تابع» مقيّد... يجعلك ترى القبح جمالاً لأن «صديقك» كتبه، وترى الجمال قبحاً لأن «خصمك» أبدعه. وهذا، لعمري، هو الموت السريري للضمير الثقافي.
نحن هنا لنبني مشاريع أدبية، لنخلد ذاكرة وطن، لنكتشف مواهب جديدة، لنشتبك مع قضايا مجتمعنا... لا لنشتبك مع بعضنا البعض.
فيا رب، اجعل عضويتي هذه فاتحة خير، وعوناً لي على قول الحق، واجعلني منحازاً دائماً وأبداً لـ «الكلمة الطيبة» و«الإبداع الحقيقي» أياً كان صاحبه، وأياً كان مشربه.
مبارك لي، ومبارك لكم... ولتبقَ الرابطة بيتاً لكل المبدعين، لا خندقاً للمتحاربين... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.

