: آخر تحديث

مجموعات تويتر.. عالم من الأقنعة الرقمية

3
2
2

سارا القرني

في عالمٍ باتت فيه الشاشات هي الساحة الكبرى للحوار، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي - وعلى رأسها تويتر أو «إكس» - مرآةً تعكس وجوه المجتمع، بكل تناقضاته، وضجيجه، وصراعاته الخفية. لكنّ ما يحدث في هذا الفضاء لم يعد مجرد تبادلٍ للآراء أو عرضٍ للأفكار، بل تحوّل إلى معركة يومية للهيمنة، والتسقيط، وصناعة الزيف بمهارةٍ مذهلة. لم يعد تويتر كما كان - مساحة للنقاش والتعبير عن الرأي - بل تحوّل إلى ساحة منقسمة إلى مجموعاتٍ متناحرة، لكلٍ منها منهجٌ خاص، ولغةٌ مختلفة، وولاءاتٌ متبدلة.

فالمجموعة الأولى هي تلك التي انشغلت بشؤونها الخاصة، تعمل بهدوءٍ وتقدّم للناس محتوى مفيدًا: أخبارًا، معلوماتٍ، وتحليلاتٍ تُسهم في إثراء المتابعين.

هؤلاء هم من تبقّى من «عقلاء المنصة»، من لا يرون في التغريد وسيلةً للتشهير، بل مساحةً للنفع العام.

أما المجموعة الثانية، فهي «مجموعة التخوين»، تلك التي تتغذّى على الصراعات وتعيش على اصطناع العداوات. ينضمون إلى بعضهم في خفاءٍ واتفاق، يرفعون شعار الدفاع عن القيم، لكنهم في الحقيقة يسعون لإسقاط كل من يختلف عنهم.

هم لا يناقشون الفكرة، بل يهاجمون صاحبها. يتقنون فن التشويه، ويجيدون اللعب على أوتار الجماهير.

دخلتُ ذات يومٍ في نقاشٍ معهم، ورأيتُ كيف يعملون - إنهم لا يهاجمونك وحدك، بل يحاولون غسل أدمغة من حولك، يصوّرون لهم أنك العدو، أنك خطرٌ على فكرهم الهشّ، وأنّ اختلافك تهديدٌ يجب إسكاته. ثم هناك مجموعة أخرى - أخطر وأدهى - «مجموعة المتسلّقين». أولئك الذين يسلكون كل طريقٍ ممكن للوصول إلى القمة، ولو كان على حساب الآخرين. لا يهمهم الصدق أو المبدأ، بل عدد الإعجابات، وعدد المتابعين، وعدد من يصفق لهم. يبحثون عن أي معلومةٍ ترفعهم في أعين الناس - حتى لو كانت مغلوطة - المهم أن يبقوا في الواجهة.

يتقنون فن التجمّل الإعلامي، ويجيدون تمثيل دور «الناصح» أو «المؤثر»، وهم في الحقيقة طلاب مجدٍ مزيف.

والأدهى من ذلك، أن خلف هؤلاء يقف من يخطط لهم، ويديرهم كدمى في مسرحٍ رقمي. يرسم لهم الطريق، ويفتح لهم الأبواب، ويهيئ لهم الدعم الإعلامي حتى يصعدوا إلى القمة دون أن يمروا بسلالم الجهد والمعرفة.

في الأعلى، يقف هؤلاء الذين لم يتعبوا، يتحدثون بثقةٍ مصطنعة عن التفوق، بينما يقبع في الأسفل من أفنوا أعمارهم في طلب العلم، من يحملون شهاداتٍ وخبراتٍ حقيقية، لكنهم بلا «صوتٍ إلكتروني» يرفعهم. المأساة أن وسائل الإعلام نفسها أصبحت جزءًا من اللعبة. ترفع من تشاء، وتتجاهل من يستحق.

تسوق الوهم كحقيقة، وتحوّل «المؤثرين» إلى رموز، بينما تُهمّش أصحاب الفكر الحقيقيين. لقد أصبحت الشهرة عملةً رخيصة تُشترى بالجدل لا بالجدارة.

بعض هذه المجموعات واضحة للعيان، صريحة في تناقضها، يمكن قراءتها بسهولة. لكنّ الخطر الحقيقي في تلك الفئة الرمادية، التي تتحرك في الظلّ،

تتلاعب بالرأي العام دون أن تُمسّ بالقانون، تُسقط وتُلمّع، تُهاجم وتُبرر، وتبقى دائمًا في مأمنٍ من المساءلة. نحن نعيش اليوم زمن الأقنعة الرقمية،

زمنًا تُدار فيه المعارك من خلف الشاشات، وتُشنّ فيه الحروب بالتغريدات،

زمنًا صار فيه الصمت حكمة، والكلمة الصادقة مغامرة. ورغم ذلك، سيبقى الأمل في أولئك الذين يكتبون بضمير، في من يرون المنصات وسيلة للتأثير الإيجابي لا للتدمير المعنوي. فالقيم لا تُقاس بعدد المتابعين، ولا المصداقية تُشترى بالهاشتاقات، وإنما تُقاس بمدى صدق الإنسان مع نفسه، ومع مجتمعه.

تويتر - أو «إكس» - ليس المشكلة، بل نحن.

نحن من صنعنا المجموعات، ونحن من نستطيع إصلاحها،

إن تخلّينا عن فكرة «الانتصار»، وبدأنا نفكر بفكرة «التأثير الحقيقي».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد