: آخر تحديث

شهوة النقد

0
1
1

في كل مجتمع، لا يخلو الحديث بين الناس من جملة نقدية جارحة أو ملاحظة متكررة تتسلل لتشوه لحظة الصفاء، النقد ظاهرة طبيعية وصحية إذا اتخذت طابعًا بنّاءً، لكنه حين يصبح شهوة، يتحول إلى إدمان نفسي واجتماعي يفسد العلاقات ويستنزف الروح. شهوة النقد ليست مجرد عادة كلامية، بل هي انعكاس عميق لآليات دفاعية نفسية، ورغبة في إثبات الذات عبر تقزيم الآخر.

العلاقة بين الوالدين وأبنائهم من أكثر العلاقات التي تتأثر بظاهرة النقد المفرط، فالأب الذي يكرر عبارة: "أنت لا تفعل شيئًا صحيحًا"، أو الأم التي تلاحق ابنها أو ابنتها بملاحظات لا تنتهي حول اللباس والدراسة والأصدقاء، تظن أنها تمارس دورها التربوي. لكن الواقع أن هذا الأسلوب يولّد شعورًا بالرفض الداخلي وفقدان الثقة بالنفس، علم النفس يشير إلى أن الطفل الذي يتعرض للنقد الدائم يتبنى صوت الناقد داخليًا، فينشأ بضمير قاس يجلده باستمرار، وقد يصبح هو نفسه ناقدًا شرسًا في المستقبل.

الأصدقاء الذين يجتمعون على الضحك والدعم قد تتحول مجالسهم إلى ساحة نقد لاذع متبادل، أحدهم يعلق على ملابس الآخر، والثاني يسخر من طريقة كلامه، والثالث يلمّح إلى ضعف إنجازاته، في ظاهر الأمر قد يبدو الأمر "مزاحًا"، لكنه في العمق يحمل رسائل تقييمية سلبية، شهوة النقد هنا تتخفى في قناع المرح، لكنها تقوّض ركيزة أساسية في الصداقة: الشعور بالأمان والقبول غير المشروط.

بيئة العمل ليست بمنأى عن شهوة النقد، الزميل الذي يراقب أخطاء الآخرين أكثر مما يركز على إنجازه، أو المدير الذي يجد متعة في اصطياد هفوات موظفيه بدلًا من تعزيز نجاحاتهم، كلاهما يعكسان ثقافة مؤسسية مريضة، النقد البنّاء مطلوب لتحسين الأداء، لكن النقد الذي يصدر من شهوة السيطرة يزرع الخوف، ويقتل روح الإبداع، ويدفع الموظف إلى التركيز على إرضاء الناقد بدلًا من تطوير ذاته.

لا يتوقف الأمر عند العلاقات، بل يتعدى ذلك إلى نظرة الإنسان للحياة ذاتها، البعض يعيش بعين الناقد الذي لا يرى سوى السلبيات: الجو حار دائمًا، الظروف سيئة، الناس بلا ذوق، المستقبل مظلم.. هذا النمط من التفكير النقدي المستمر يحرم صاحبه من الاستمتاع بالجمال البسيط في تفاصيل الحياة، إنه شكل من أشكال السخط المزمن، الذي يبرر الفشل ويعطل الإرادة، وكأن الحياة كلها تُختزل في مرآة مشوهة تعكس القبح دون أن تسمح بمرور النور.

شهوة النقد كما يصفها بعض علماء النفس، تشبه الإدمان السلوكي، الناقد يجد في كل ملاحظة سلبية إحساسًا داخليًا بالقوة، وكأنه يضع نفسه في موقع أعلى، لكنها قوة زائفة، لأنها قائمة على إضعاف الآخر. وفي العمق، غالبًا ما يخفي الناقد المفرط مشاعر نقص أو قلق داخلي، فيلجأ إلى النقد ليغطي هشاشته، هنا يتحول النقد من وسيلة تواصل إلى درع دفاعي ضد مشاعر الخوف والدونية.

كيف نواجه شهوة النقد؟ بالتفريق بين النقد البنّاء والهدّام؛ الأول يركّز على السلوك مع اقتراح بديل، أما الثاني فيستهدف الشخصية ليحطمها، والتدريب على الامتنان، واستبدال عادة النقد بتمرين يومي على ملاحظة الإيجابيات في الناس وفي الحياة، الصمت الواعي، فليس كل ما يُلاحظ يُقال، أحيانًا يكفي أن نصمت لنحمي العلاقة، النقد الذاتي المتوازن، أن يراجع الإنسان نفسه بصدق دون قسوة، ليطور ذاته بدل أن يجلدها.

شهوة النقد أشبه بمرآة مكبرة نوجهها دائمًا نحو الآخرين، لكنها في النهاية تعكس هشاشتنا نحن، فالعلاقات الإنسانية تزدهر بالقبول والرحمة والتشجيع، لا بالانتقاد الدائم، ولعل أجمل ما يمكن أن نختتم به هو قول عالم النفس كارل روجرز: "التغيير يحدث عندما أقبل نفسي كما أنا، لا عندما أحاول أن أكون شخصًا آخر"، النقد المستمر لا يخلق إنسانًا أفضل، بل يخلق قلقًا أعمق، ومن يكثر من الحكم على الآخرين، إنما يفعل ذلك ليخفي جراحه الداخلية، وقبول الآخر يبدأ حين نكسر شهوة النقد ونمنح أعيننا فرصة لرؤية ما هو جميل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد