في أحد أركان القاهرة القديمة، جلس عمرو في مقهى صغير، تحيط به أصوات الخطوات والباعة، وهو يتأمل صفحة من دفتره مليئة بالكلمات المتفرقة. كان يفكر في الخطأ، لا ذلك الذي يُسجل على أنه إخفاق أو ضعف في الهمة، بل في اللحظة التي تكشف عن إمكانات جديدة وتعيد تشكيل الحدود القائمة. فكّر في كل مرة اعتُبر فيها الخطأ لحظة ندامة، لكنه كان يرى فيها سرًا خفيًا، وسيلة لإعادة ترتيب المفاهيم، وإعادة صياغة الأشكال الثقافية.
تذكر عمرو المدرسة الانطباعية، عندما كان النقاد يرفضون لوحاتها ويصفونها بالضعف وبأنها تفتقر إلى الدقة الأكاديمية. لكنه رأى أن هذا الانحراف عن القاعدة، هذا "الخطأ"، أصبح لاحقًا سمة مميزة لحركة فنية كاملة أعادت تعريف الجمال، وأحدثت أثرًا عميقًا في الفن الحديث. تمامًا كما يحدث في الأدب، حيث واجه الشعر الحر انتقادات مماثلة، لكنه فتح المجال لتجارب لغوية جديدة في التعبير عن التجربة الإنسانية، وأعاد النظر في مفاهيم الوزن والإيقاع.
تذكر صديقه المترجم، الذي كان يقول دائمًا: "الترجمة ليست مجرد تحويل الكلمات من لغة إلى أخرى، هي عملية إعادة بناء للمعنى داخل بنية ثقافية مغايرة. أحيانًا تبدو بعض التغييرات التي أجريها على النص الأصلي خطأ، لكنها من حيث التأثير الثقافي تمثل إعادة صياغة مقبولة، وتخلق جسورًا ثقافية جديدة".
ابتسم عمرو وهو يتذكر كيف ساهمت بعض الترجمات في إدخال مفاهيم جديدة إلى ثقافات لم تكن تعرفها من قبل. الخطأ إذًا ليس خللًا دائمًا، بل عامل في خلق التفاعل والتداخل الثقافي. بعض الترجمات الأولى لأعمال كبار الأدباء تمت عبر لغات وسيطة، مما أدى إلى ضياع بعض الدلالات، لكنها صنعت صورة مختلفة لهؤلاء الأدباء داخل السياقات الثقافية الجديدة، وأسهمت في بناء علاقة قرائية مع نصوصهم، حتى وإن كانت العلاقة جزئية أو منقوصة.
تجول ذهنه بعد ذلك إلى المختبر، حيث خطأ علمي بسيط يمكن أن يولد اكتشافًا عظيمًا. كم من دواء أو تجربة فشلت لتصبح خطوة أساسية في تطور المعرفة؟ كتب التاريخ العلمي مليئة بهذه الهفوات، لأن الفهم العلمي لا يتقدم بشكل خطي، بل عبر تصحيحات مستمرة، من إخفاقات جزئية وتحولات في الرؤية.
كان يرى أن الخطأ ليس خروجًا عن النظام، بل عنصرًا داخليًا فيه، يشارك في إعادة تعريف حدوده من وقت إلى آخر. الأشكال الثقافية المتكلسة، كما في الفن والأدب، تحتاج إلى زحزحة، تبدأ بخطأ بسيط، لكنه يكشف عن إمكانات مهملة. فالخطأ، في بدايته، مرذول أو مرفوض، لكنه مع الزمن يصبح بوابة إلى فهم أوسع، وإمكانية جديدة، ورمزًا لمرونة الفكر والتجربة الإنسانية.
ثم نظر حوله، إلى الناس، إلى الشوارع، إلى المقهى القديم. كل حركة خارجة عن المألوف، كل ابتكار أو هفوة، كانت جزءًا من التجربة الإنسانية. الثقافة لا تنمو بالامتثال فقط، بل بالمقاومة، وبالانحرافات الدقيقة عن المعتاد. كل شيء يبدو اليوم خطأ قد يصبح غدًا معيارًا، وكل لحظة إخفاق تحمل بذرة جديدة للإبداع.
أغلق عمرو دفتره، وأخذ نفسًا عميقًا، وفكر في كل لحظة فشل عاشها، وكل تجربة لم تسر كما خطط لها، وكل ترجمة لم تصل كاملة، وكل لوحة رفضها النقاد، وكل اكتشاف علمي بدأ من نتيجة غير متوقعة. وفجأة، بدا له الخطأ ليس عقبة، بل بداية، بوابة، ومرآة، وإمكانية. كان الخطأ بالنسبة له ليس إخفاقًا، بل حياة، وتذكيرًا بأن العالم لم يُخلق كاملًا، وأن الإبداع ينمو من اللحظات التي تتجاوز المألوف وتعيد صياغة القواعد السائدة.