: آخر تحديث
تواصل إرثاً عريقاً في صناعة الجسور الثقافية

صبحة الراشدي: سوربون الروح العربية

4
3
3

من قانون العين إلى أدب القلب.. رحلة كاتبة إماراتية تواصل إرث طه حسين وكمال جنبلاط وأمين معلوف في صناعة الجسور الثقافية

إيلاف من بيروت: في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتناثر فيه الأصوات، تبرز بعض الأسماء كمنارات ثقافية تهدي الباحثين عن الجمال والمعنى. من بين هذه الأسماء، تلمع صبحة الراشدي، الكاتبة الإماراتية التي جمعت بين العقل القانوني والخيال الأدبي، بين الثقافة العربية الأصيلة والانفتاح الفرنسي العريق، وبين دقة الكتابة الصحافية وشفافية الرواية. بعد قراءتي لروايتها «لم أتغير» قراءة نقدية متأنية، أسعى لإلقاء نظرة شاملة على مسيرة الكاتبة وإنتاجها، لأكشف كيف تجسّد مثال المرأة العربية المثقفة التي تكتب بصدق وجداني نادر، وتحلل الواقع بعين إنسانية دقيقة.

الثقافة والتكوين: العقل والوجدان
ولدت صبحة الراشدي في ربوع الإمارات، ودرست القانون في جامعة العين، لاكتساب العقلية المنطقية والدقة التحليلية. لكن شغفها بالمعرفة لم يتوقف عند حدود النصوص القانونية، بل امتد إلى دراسة اللغة الفرنسية في جامعة السوربون العريقة، حيث اغتنت بروح الثقافة الأوروبية واحتكت بتجارب إنسانية شتى. هذه الثنائية الثقافية – العربية والفرنسية – تظهر في أدواتها المعرفية، وفي قدرتها على التقاط اللحظات العابرة وتحويلها إلى تأملات وجودية تتجاوز حدود المكان والزمان.

تضعها هذه المسيرة في إرث فكري رفيع لرواد تخرجوا من رحم السوربون، جمعوا بين أصالة الفكر العربي وحداثة المنهج الغربي. إنها تنضم، بروحها، إلى صفوف عميد الأدب العربي طه حسين، الذي أضاء العقول بجرأته الفكرية، وإلى فيلسوف السياسة والإنسان كمال جنبلاط، الذي مزج الحكمة الشرقية بالفلسفة الغربية، وإلى الروائي العالمي أمين معلوف، الذي جعل من الهمّ الإنساني والهوية سرداً كونياً. بهذا، تجسد صبحة الراشدي حضور المرأة العربية في فضاء الثقافة العالمي، حاملةً معها تراث هؤلاء العمالقة الذين أسسوا لجسر بين الحضارات، لتضيف عليه لمسة عربية أنثوية دقيقة، تُمكّن من إعادة قراءة الثقافة من منظور نسائي وجداني.

«لم أتغير»: الرواية كمرآة للذات والثبات
رواية «لم أتغير» ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي مرآة صافية للذات الإنسانية في مواجهة تقلبات الوجود. الشخصية الرئيسة تواجه التحولات الكبرى، من غربة واغتراب، لكنها تصر على التشبث بجوهرها، مؤكدة أن الهوية الداخلية أعمق من كل الظروف العابرة. في قراءتي للرواية، لمست أن الكاتبة تكتب اعترافها الشخصي، وكأنها تعلن بصوت هادئ وحازم عن صمود الإنسان أمام محاولات التشظي والنسيان، وعن قدرة الجوهر الإنساني على البقاء ثابتًا رغم صخب الحياة وتناقضاتها.

أسلوبها السردي يمزج بين واقعية صارمة ورمزية شفيفة، يقود القارئ إلى إدراك أن كل حدث، وكل مشهد، هو باب مفتوح للتأمل في معنى الثبات والتغير. هناك حضور دائم للوجدان، للدهشة الأولى، وللأسئلة الكبرى التي ترافق رحلة كل إنسان بحثاً عن ذاته، تماماً كما فعل أسلافها من المفكرين الذين جعلوا الأدب جسراً بين المعرفة الإنسانية والوجودية.

القصة القصيرة: ومضات من الحياة
إلى جانب الرواية، تبرع صبحة الراشدي في كتابة القصة القصيرة، حيث تلتقط اللحظات العابرة وتحولها إلى عوالم دالة. تتجلى براعتها في تحويل التفاصيل اليومية البسيطة إلى رؤى إنسانية عميقة، تظهر فيها المشاعر المتضادة، والتناقضات الخفية، والبحث الأبدي عن الحقيقة. أسلوبها في القصة يذكرنا بأن الأدب الحقيقي ليس حدثاً مسرحياً ضخماً، بل هو إحساس مرهف، ووعي حاد، ومواجهة صادقة مع الذات والآخر.

المقالة: صوت وطني وتأملي
ليست صبحة كاتبة سرد فحسب، بل هي صاحبة صوت متميز في عالم المقالة الصحفية، كما في صحف مثل البيان وإيلاف. مقالاتها تحمل نفس الصدق والعذوبة الموجودين في نصوصها الإبداعية. فهي لا تعلق على الأحداث السطحية فقط، بل تفتح نوافذ على النفس والمجتمع، على الوطن بفرحه وألمه، وعلى الأسئلة التي تظل عالقة في الوجدان الجمعي. في مقالاتها، تبرع في المزج بين التحليل الواقعي الثاقب والتأمل الفلسفي الرقيق، بين الانتماء المحلي والهم الإنساني الكوني، فتكتب من دون ادعاء، ولكن بعاطفة جياشة ووعي رصين.

ميزات أدبها: الصدق والجسر الثقافي
عند التمعن في إنتاجها الأدبي، تتكشف لنا ملامح مشروعها الإبداعي الذي تقوم عليه ركائز عدة:

1. الصدق العاطفي: لا تخشى الكشف عن أعماق النفس الإنسانية، محولة الاعتراف الشخصي إلى نص يلامس شغاف القلوب.

2. الجسر الثقافي: بجذورها العربية وثقافتها الفرنسية، تخلق لغة موسيقية وفكرية متسعة، تجعل من نصها ملتقى للحضارات، تماماً كما فعل أسلافها من عمالقة السوربون.

3. الكتابة الاعترافية: كل نص يحمل نفحة من البوح، كأنه رسالة حميمة من القلب إلى القلب.

4. توازن العقل والخيال: الانضباط الفكري الذي منحها إياه القانون، مقترناً بالحرية الإبداعية التي اغتنت بها في السوربون، يخلقان نسيجاً أدبياً متماسكاً وجميلاً.

صبحة الراشدي كقدوة: استمرار لإرث ثقافي عريق
حين نمعن النظر في مسيرتها، نجد أن صبحة الراشدي تمثل النموذج الأرقى للمرأة العربية المثقفة في عصرنا: امرأة قادرة على الجمع بين قوة العقل ورقّة الوجدان، بين التمسك بالهوية والانفتاح على العالم. هي ليست مجرد كاتبة، بل هي استمرار حي لإرث ثقافي عريق، تضيء به الدرب للأجيال الجديدة، وتثبت أن المرأة العربية ليست متلقيةً للثقافة فحسب، بل هي صانعةٌ لها ومجددةٌ لها، تسير على الدرب الذي شقّه رواد مثل طه حسين وكمال جنبلاط وأمين معلوف، حاملةً نفس الشعلة الإنسانية المتقدة، ومعيدة صياغة المعنى الثقافي من منظور المرأة العربية المعاصرة.

خاتمة: الأدب كمرآة للإنسان
في الختام، كتابة صبحة الراشدي هي دعوة صادقة للتأمل، للثبات على الذات، وللاعتراف بإنسانيتنا المشتركة. «لم أتغير» ليس مجرد عنوان لرواية، بل هو بيان وجودي يحضّ القارئ على التوقف والنظر إلى الجوهر الثابت في داخله. بأدبها الممزوج بالصدق والعمق، تذكرنا صبحة بأن المرأة العربية قادرة على أن تكون قوة ثقافية فاعلة، وأن النص الأدبي يمكن أن يكون فضاءً للبوح والدهشة، وجسراً لفهم الذات والآخر معاً.

صبحة الراشدي، إذن، ليست مجرد كاتبة، بل صوت إنساني متأمل، وجداني، ومثقف، تضيء الطريق لكل باحث عن الأدب الصادق والعميق. هي حلقة جديدة في سلسلة مضيئة من المثقفين الذين جعلوا من الأدب جسراً بين العوالم، وبين الحلم والواقع، وبين الماضي والحاضر، حاملةً معها تراث السوربون العريق لتصهره في بوتقة الهوية العربية، فتُخرج لنا أدباً إنسانياً خالصاً، نموذجاً يحتذى لكل كاتب وقارئ يسعى إلى العمق والجمال.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات