ليست ككلّ الورود التي أينعت في حدائق العمر، ولا كزهرةٍ طافت عليها رياح الزمن فعادت ذابلة. إنّها مختلفة، متميّزة، تحمل في طيّاتها سرّاً خفيّاً لا يُدركه إلا من أبصر جوهرها. منذ اللحظة الأولى التي جمعتني بها الصدفة، شعرتُ أنّ في حضورها ما يتجاوز حدود المألوف، وأنّ عبيرها ليس عطراً يُستنشق فحسب، بل روحاً تسكن فيك، وتعيد ترتيب أحاسيسك على نحوٍ لا تملك الفكاك منه.
كانت ناعمة في كلّ شيء؛ في تصرّفاتها، في حديثها المتّزن، في اختيارها لكلماتها التي تنتقيها كما تنتقي النسمةُ طريقها بين أوراق الورد. حديثها يحمل دفئاً يوقظ فيك الطمأنينة، ومشيتها الواثقة تعلن عن اتّزانٍ داخليّ يصعب أن يُكتسب بالتعلّم أو التجربة، بل هو هبة من نقاء الروح.
كثيراً ما حاولتُ أن أختبر صدقها، أن أقرأ ما وراء ابتسامتها الهادئة، أو أبحث في ملامحها عن ذاك الوميض الذي قد يخون المخلصين. غير أنّ كلّ ما صدر عنها كان يؤكد لي أنّها من طرازٍ نادر، إنسانة لا تكلّف نفسها لتبدو طيّبة، لأنّ الطيبة تسكنها طبعاً لا تكلّفاً.
شخصيّتها متزنة، روحها مشعّة بعفويّتها التي تخترق الحواجز دون استئذان، وتلامس القلب دون مقدّمات. استطاعت، ببساطتها وصدقها، أن تبني لنفسها حضوراً فريداً بين الآخرين، وأن تكسب ثقتهم بتواضعٍ أصيلٍ لا يشبه رياء المتواضعين. كان فيها من السكينة ما يجعل المرء يهدأ لمجرّد الجلوس بقربها، ومن الرقيّ ما يجعل الصمت أمامها فضيلة.
طيبةٌ في معاشرتها، في رؤيتها للحياة، في نظرتها للناس، حتى في ابتسامتها التي تتقن لغة المواساة أكثر مما تفعل الكلمات. كانت تؤمن بأنّ البساطة ليست ضعفاً، بل قوّة خفيّة تمنح المرء سطوعاً خاصاً، وبأنّ الفقر لا ينتقص من كرامة الإنسان، ما دام يملك أناقة الروح وغنى القلب.
رأيتها ترتدي ما تيسّر لها من الثياب، دون تكلّف ولا استعراض، فكنت أرى فيها جمالاً يفيض من الداخل، وجاذبيّةً لا تستند إلى الزينة بقدر ما تستند إلى الصفاء. كانت تملك حضوراً يُجبر الآخرين على احترامها، ويُلزم العيون بتتبّعها في دهشةٍ وإعجاب. ومع ذلك، لم تسلم من أحقاد بعض النفوس الصغيرة التي ضاقت بجمالها النقيّ، فحاولت أن تنال منها بالنميمة والوشاية، لكنها بقيت سامية، لا تنزل إلى قاعهم، ولا تمنحهم فرصة انتهاك صفائها.
إنّها من تلك الأرواح التي تشعّ ضوءاً في العتمة، لكنّها تدفع ثمن نورها وحدها. تُغريك بلطافتها، تجرّك أناقتها إلى عوالم نقيّة، حتى تكاد تتجاوز حدودك، وتنسى وصاياك القديمة عن التريّث والحذر. في لحظاتٍ كهذه، يُصبح الصراع بين الرغبة والضمير ساحةَ اختبارٍ قاسية، ويغدو التماس وجهها ضرباً من الخطر الجميل الذي لا يُقاوَم. غير أنّ ما تربّينا عليه من القيم، وما ترسّخ فينا من أدبٍ وتعفّف، كان كفيلاً بأن يعيدنا إلى رشدنا، فنكبح جماح الإحساس قبل أن يتحوّل إلى زلّةٍ لا تُغتفر.
هي لا تعرف كم من الرجال يختبرون في حضورها صبرهم على الجمال، ولا تدري أنّها توقظ فيهم ما ظنّوه قد خمد منذ زمنٍ بعيد. ومع ذلك، تظلّ في عزلتها الهادئة، تحيا ببساطةٍ تشبه نسمة الصباح حين تمرّ على نوافذ الأحياء الفقيرة، تنثر الحياة دون أن تنتظر شكراً أو عرفاناً.
ربما ما شدّني إليها لم يكن جمالها فحسب، بل ذاك الصدق الفطريّ الذي يشعّ من عينيها. كأنّها تقول من دون أن تنطق: “الحياة لا تُطاق إلا بالصدق، ولا تُعاش إلا بالمحبّة". كانت تقاوم ما حولها من زيفٍ بابتسامتها، وتردّ على قسوة العالم بعفويّةٍ تجعل من الضعف قوّة ومن النقاء سلاحاً.
كم من مرّةٍ وجدت نفسي أفتقدها دون أن أجرؤ على الإفصاح عن ذلك، وكأنّها غابت لتترك فيّ فراغاً لا يملؤه أحد. صارت رمزاً لكلّ ما هو جميل ونادر في هذا العالم الذي فقد بوصلته الأخلاقية. إنّها تمثّل ما نبحث عنه جميعاً: الإنسان الصادق الذي لا يتبدّل بتبدّل الأحوال، ولا تلوّثه رغبات الآخرين.
كثيراً ما تأمّلت صورتها، لا بوصفها امرأة فحسب، بل كقيمةٍ إنسانيّة تمشي على الأرض. فهي مرآةٌ لما افتقدناه في زمنٍ صار فيه التزييف عنواناً، والمصلحة لغةً مشتركة بين الجميع. كانت “الأنثى البريئة” تجسيداً للنقاء الإنساني الذي نحلم بوجوده، وتذكيراً بأنّ الجمال الحقيقيّ لا يُرى بالعين، بل يُحسّ بالقلب.
ولمّا حاولت أن تشقّ طريقها في الحياة، وجدت الأبواب موصدة، كما لو أنّ العالم يخشى طهارتها. غير أنّها لم تستسلم، بل ظلّت تطرق الأبواب بصبرٍ يشبه صلاةً طويلة. إلى أن جمعها القدر بصديق طفولتها، كان اللقاء أشبه باستعادةٍ لجزءٍ من ذاتها المفقودة، فابتسمت للحياة من جديد، بعد أن أنهكتها الخيبات، وعرفت أنّ الفرح لا يولد إلا بعد تعبٍ طويل.
ذلك اللقاء أعاد إليها بعضاً من ألوانها القديمة، وأحيا في قلبها بريق الأمل. ومع كلّ لحظةٍ تمضي، كانت تشعر أنّها تتطهّر من شوائب الماضي، وأنّ الصدق، مهما غاب، لا يموت. ومنذ تلك اللحظة، بدأت تسير في طريقٍ قويم، موقنةً بأنّ الله لا يخذل القلوب النقيّة مهما طال ليلها.
تلك هي الأنثى البريئة التي عرفتها؛ زهرةٌ نمت في تربةٍ قاسية، فلم تفقد عطرها، ولم تنحنِ للرياح. ظلّت صامدةً أمام قسوة الحياة، متمسّكةً ببراءتها كأنّها كنزها الأخير. وفي عالمٍ يُقاس فيه الجمال بالمظاهر، كانت هي الدليل الحيّ على أنّ النقاء أجمل من أيّ زينة، وأنّ الصدق أندر من اللؤلؤ في بحرٍ من الزيف.