: آخر تحديث
التفلسف بالحواس

"أتذوق، أسمع، أرى" لـ عبد الصمد الكبّاص...

1
1
2

صدر عن "محترف أوكسجين للنشر" في أونتاريو كتاب فلسفي جديد للمفكّر والباحث المغربي عبد الصمد الكبّاص، حمل عنوان "أتذوق، أسمع، أرى: فلسفة من أجل الحواس". والكتاب لا يحيد عن مشروع المفكّر المؤسِّس لفلسفة أصيلة للجسد، والذي يطرح إشكاليته ضمن سياقٍ مفاهيمي عميق، بوصفه موضوعاً للتفلسف، وتجربةً للعيش بالحواس، كفعلٍ للحياة في أفق التفكير بأبعادهالأنطولوجية والثقافية داخل الفضاء الفكري العربي المعاصر.

ومنذ سؤال البدايةِ حول شربِ القهوة في الصباح، وكيف يتحوّل هذا الفعلُ العابر إلى "تجربة للأبدية تتجمّع في لحظة واحدة؟" يفتتح المفكّر عبد الصمد الكبّاص كتابه هذا بأسئلة مماثلة، تنبّه حواسَنا وتجعلنا نتساءل معه عن "سرّ هذا السحر الذي تُفعم به القهوة الجسد، أهو الطعم، أم الرائحة، أم اللون الأسود الذي يلتمع في قلب الفنجان الأبيض؟"، ربّما تكون هذه الأسئلة، تدريباً يومياً على التفكير، مما يجعل من القهوة مدخلاً كبيراً لفلسفة الحواسّ، وهو ما يعيدنا إلى العنوان، الذي جاء بصيغة الفعل المتسمرّ في الحدوث: "أتذوّق، أسمع، أرى"، فاتحاً الباب أمام القارئ ليختبر حواسه بعيداً عن أسئلة الحقيقة والمعنى والمعرفة، إنّما بما يتيح لها "أن تظهر كفعل للحياة في أفق التفكير، أي التدفّقات الحسّية التي تنتشر في ملاذات الجسد، وما يترتّب عنها من حياة".

لا شكّ أنّ هذا النوع من التفلسف يفتح "مسالك مختلفة لاشتباكات الحياة واللغة والجسد"، وهو ما تسلكه كلمة الغلاف: "وما الحياة في هذا الكتاب إلا ألوان وأصوات ومذاقات وروائح وملامِس، حواسٌّ تأخذ مداها الوجودي فيه، فتنتعش الحياةُ ولا تعود التجربةُ البشرية منظومةَ تقييدٍ للجسد وتلقائيته. إنه كتاب للمفكّر المغربي عبد الصمد الكبّاص، وفي اسمه ما يعِدنا برحلة فلسفية استثنائية، يواصل فيه مشروعه، وهو يحرِّر التفلسف العربي من التموقع في النصوص المتراكمة ليجعله متموقعاً في العالم".

بمقدمّة جاءت بعنوان "الانحيازات تعلننا كأجساد"، وسبعة فصول، يكثّف الكبّاص أسئلته حول الفلسفة والتفلسف، فنقرأ أولاً في المقدمة: "إنّ تجاوز وضع الحياة كبقاء، لا يحدث ولا يتأتّى إلّا تحت شرط ما تنتجه الحواسّ، لكنّ الحواسّ لا تجعل الحياة تظهر حيّة أمامنا فقط، بل تجعلنا أيضاً أحياء في مواجهة العالم، فماذا سنكون من دون الأصوات التي نسمع والصور التي نرى والنكهات التي نتذوّق والروائح التي نشمّ؟ ما يستخلص من أفعال حواسّنا، هو حياتنا الخالصة، ما ينسب إلينا في عالم يجعلنا موضِعاً لحدوثه، ويُفرِّدنا كأحد ممارساته". ويضيف: "نكاد لا ننتبه إلى أنّ الحواسّ تفتح المجال الذي يؤكّد فيه الجسد نفسه كانحياز. إنّه يمارس فيها انحيازاته التي يعلن من خلالها ما يكونه".

وللإضاءة أكثر حول طبيعة هذه الانحيازات، نقرأ في الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان: "بين قوسين: من الفلسفة إلى التفلسف":

"التفلسف هو تفعيل لشرط اللّامسافة المنتجة لتجربة العالم بما هي التحام بصيروراته، وتكوّننا كتفعيل لهذه الصيرورات. يعني ذلك أنّ العالم في لحظة التفلسف هو امتداد لوجودنا المقلق، وفي الوقت نفسه نحن لسنا سوى تشغيل لتوتّر الكثافات التي تنبثق فيه والتي توقظ فينا رغبة المفهوم". يوضح الكبّاص إشكالية التفلسف العربي في هذا السياق، بكونه تموقع في النصوص الفلسفية لا تموقعاً في العالم فـ "لقد شكّل تاريخ الفلسفة التراكمي عائقاً أمام التفلسف العربي، فألزمه أن يراوح مكانه، مفلتاً شرطه، ليعوّض التموقع في العالم، بالتموقع في النصوص المتراكمة، متحوّلاً إلى مستخدم مهمّته التذكير بمضامينها، ومتقمّصاً أسئلتها، منتحلاً همّها الفلسفي، بما ينتج عن ذلك من تكرار لإجاباتها. فأصبح ما عُمِّم تحت اسم الفلسفة عربياً، كورالاً متصدّعاً يردّد إجابات متنافرة ونصوصاً متضاربة، محروماً من منسوب الحياة الذي يجعل الفكرة راهناً فعليّاً يخترق الجسد ويفعل في العالم".

كتاب "أتذوق، أسمع، أرى: فلسفة من أجل الحواس" هو خلوصٌ إلى إبداعية الجسد فلسفيّاً، وسعيٌ إلى صياغة عربية لطريقةٍ في التفكير بالجسد بعيداً عن المركزية الغربية، وهذا ما يتناغم مع تجربة عبد الصمد الكبّاصفي التفلسف ووضع الحواس في قلب هذه التجربة، "إنها قصيدة الحياة التي تستحق أن تنشد"، فنحن إذا جرّدنا الحياة من الألوان والأصوات والمذاقات والروائح والملامس، ما الذي سيتبقّى منها كحياة أمامنا؟

وعبد الصمد الكبّاص مفكّر مغربي من مدينة مراكش، يشكّل الجسد إشكاليته الرئيسية التي اشتغل عليها في مجموعة من الأعمال. من مؤلّفاته: "أفول الحقيقة"، بالاشتراك مع عزيز بومسهولي وحسن أوزال (2004)، و"المجرى الأنطولوجي" (2006)، و"الحقّ في الجسد" (2008)، و"الجسد والكونيّة: مبادئ ثروة قادمة" (2014)، و"الرغبة والمتعة"، رؤية فلسفية (2016)، و"الجسد وأنثربولوجيا الإفراط: خيبة التمثيل" (2021)، و"الشاشة والورق، مديولوجيا الصورة والنصّ في الصحافة زمن الانتقال الرقمي" (2023)، "أتذوق، أسمع، أرى: فلسفة من أجل الحواس" (2025).


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات