إيلاف من مراكش: ترك فيلم "الست" (2025)، لمخرجه مروان حامد، وبطولة منى زكي وسيد رجب وأحمد خالد صالح ومحمد فرج وكريم عبد العزيز وأحمد حلمي، صدى إيجابيا، الأربعاء، خلال عرضه في مهرجان مراكش، ضمن فقرة "العروض الاحتفالية".
وأثنى نقاد مغاربة على الفيلم، ومنهم من رأى أنه "أهم ما أنجز سينمائيا حول السير الذاتية للمشاهير مصريا وعربيا".
ويتحدث الفيلم عن سيدة الطرب العربي، وقصة انطلاق رحلتها الفنية الاستثنائية نحو المجد، من قرية صغيرة في دلتا مصر، وسط مجتمع شرقي محافظ لا يمنح النساء فرصة للظهور. ويظهر الفيلم كيف أن أم كلثوم، منذ طفولتها، وهي تغني متخفية في هيئة فتى، تواجه نظرات الاستغراب والرفض، وتدفع حياتها ثمنا لموهبة لا تتكرر. كما يستعرض مسيرتها الحافلة بالتضحيات والانكسارات، لأجل أن تجعل من صوتها رسالتها الوحيدة، ومن المسرح وطنها الأول؛ هي التي حتى حين حاصرها المرض، ظلت شامخة تواجه الألم بصوت يعلو فوق كل وجع.
ويسافر الفيلم بالمشاهدين إلى طفولة أم كلثوم، التي بدأت مسيرة الغناء في سن الصبا وهي تتخفى في هيئة فتى، وواجهت مواقف الرفض، قبل أن يستعرض محطات التحول، ولحظات الانكسار، والقرارات الصعبة التي اتخذتها الفنانة التي تحولت من مطربة تطرب جمهورها إلى أسطورة أمتع صوتها الملايين، حتى أصبحت ذاكرة غنائية خالدة.

منى زكي في مراكش
أبيض وأسود
قبل عرض الفيلم في إطار فقرة "العروض الاحتفالية"، كان فريق عمله على موعد مع الإعلاميين والنقاد المتخصصين، تحدث خلاله المخرج مروان حامد عن الدعم الكبير الذي خصصه مهرجان مراكش للفيلم، من خلال "ورشات الأطلس". وأضاف، في مؤتمر صحافي نشطه الناقد السينمائي جمال الخنوسي: "أنا من عشّاق أفلام السيرة الذاتية، ونلاحظ اليوم اهتماما عالميا بهذا النمط، فيما يزخر عالمنا العربي بنماذج تستحق أن تُروى قصصها، وفي مقدمتها أم كلثوم". وشدد على أن أم كلثوم، رغم مرور نصف قرن على رحيلها، لاتزال تفرض حضورها بقوة، وأوضح أن "هذا ليس بفضل الموهبة فقط، بل لأن حياتها حفلت بمحطات وأحداث شكّلت هذه السيدة الاستثنائية".
وأشار حامد إلى أن الفريق اختار التركيز على المنظور الإنساني، وكشف مناطق "لم نكن ندرك وجودها"، بعيدا عن "التقديس"، مع اعتماد "الأبيض والأسود" في بعض المشاهد للدلالة على مراحل المعاناة والصراع، في مقابل مراحل أخرى مضيئة في حياتها.
وعن اختيار منى زكي لتجسيد دور أم كلثوم، قال حامد إنها "ممثلة كبيرة جدا ومؤثرة، لديها شجاعة نادرة وقدرة على اختراق الشاشة الكبرى والصغرى والوصول مباشرة إلى قلب الجمهور"، مؤكدا أنها تعد في نظره "الأقدر على التعبير عن الرسائل التي نبحث عن إيصالها من خلال الفيلم".
وجه خفي
قالت منى زكي إن "الست" يبقى أصعب فيلم اشتغلت عليه في حياتها، لأن فريق العمل ركز على الجانب الإنساني في حياة أم كلثوم، وهو الجانب الذي لا يعرفه كثيرون. وأضافت: "حاولنا إظهار الوجه الخفي في حياتها: قسوتها على نفسها، علاقتها بعائلتها، تحديات فتاة ريفية تصعد نحو المجد، وحدتها الطويلة، وصراعها مع المرض".
من ندوة تقديم فيلم "الست" في مراكش
وعن تجربتها ودورها في الفيلم، قالت إنها تدربت مع عدد من المتخصصين والمدربين على الصوت والأداء، مشيرة إلى أن التجربة كانت مؤثرة للغاية بالنسبة لها. وأضافت أن هذه التجربة غيرتها كثيرا.
نزع نظارة القدسية
شدد كاتب السيناريو، أحمد مراد، على أن فريق الفيلم حاول "نزع نظارة القدسية التي عادة ما ينظر بها إلى المطربة أم كلثوم، والاقتراب من الإنسان الحقيقي فيها"، وذلك عبر استيعاب وجهات النظر المختلفة حولها وفهم تناقضات الحياة التي عاشتها. وأضاف أن الفيلم سعى إلى الموازنة بين جانب القوة والمجد في شخصية كوكب الشرق، من جهة، ولحظات الضعف في حياتها من جهة أخرى، معتبرا أن "كل شخصية عظيمة تحمل جزءا من الضعف"، وأن "هذه اللحظات هي التي تصنع الأسطورة".
في حب أم كلثوم ومصر
في سياق الصدى الإيجابي الذي تركه الفيلم لدى النقاد والمتابعين، بعد عرضه في مراكش، كتب الناقد محمد شويكة، على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "في حب أم كلثوم ومصر وناسها وفنها وثقافتها وصديقاتي وأصدقائي.. كان لزاما مشاهدة فيلم "الست" بمراكش تأكيدا، ومع الفنانة المطربة صباح زيداني طبعا. تفوقت في هذا الفيلم الممثلة منى زكي عن سابقاتها ممن شخصن أدوار الست، من ناحيتين، على الأقل، وهما: نفسيا، هناك توازن بين لحظات الهدوء والانفعال.. وفنيا، لم تكن حركاتها مبالغا فيها كما نشاهدها لدى مثيلاتها من مشخصات أم كلثوم في المسلسلات التلفزيونية الدرامية (مع مراعاة الفوارق). من الصعب جدا ضغط الزمن سياسيا واجتماعيا وإيديولوجيا في كل ما عايشته الست، ولكن السيناريست والمخرج، قاما بمجهودات إيجابية - توازنية - لربح رهانات هذا المنتوج الفني الضخم".
من أهم ما أنجز
كتب الناقد السينمائي عبد الكريم واكريم: "انتهى قبل قليل العرض العالمي الأول الخاص بالصحافة لفيلم "الست" بمهرجان مراكش السينمائي، وستنطلق الآن المؤتمر الصحافي للفيلم مع المخرج مروان حامد والنجمة منى زكي والسيناريست أحمد مراد. وما يمكن لي القول كانطباع أولي قبل الكتابة عن الفيلم بتفصيل أن كل ما كتب عن الفيلم قبل مشاهدته كان محض هراء متسرع، وأن الفيلم بالنسبة لي من أهم ما أنجز سينمائيا حول السير الذاتية للمشاهير مصريا وعربيا".
مكانة فنانة
وكتب جمال الخنوسي، في ورقة تحت عنوان: فيلم "الست" للمخرج مروان حامد.. أم كلثوم في امتحان السينما: "تمكن مروان حامد من إعطاء حيز كبير للبعد الاجتماعي والنسوي في الفيلم بطريقة ذكية؛ إذ يظهر "نضال" أم كلثوم من خلال أفعالها، لا من خلال الخطابات. فتتمسك بكرامتها واستقلاليتها، وتفرض شروطها الفنية دون صدام صريح، وهو ما يجعل صورتها نسوية بطابع تاريخي لا تنظيري؛ إذ يلتقط الفيلم هذه الملامح بدقة: امرأة تكسر القواعد دون أن ترفع شعارا، وتعيد تعريف مكانة الفنانة في مجتمع تهيمن عليه الذكورية".

منى زكي في مراكش
وأضاف الخنوسي: "النقلة التقنية الأبرز في الفيلم هي التناوب بين الأبيض - الأسود والألوان؛ إذ لا يستخدم الأبيض والأسود كاستعادة "أرشيفية"، بل كبوابة، وبعد زمني. في المقابل، تأتي الألوان كحياة مضافة، كأن الفيلم يقول: "هذه ليست أم كلثوم التي عرفتموها، بل ما يمكن أن تعنيه اليوم". في بعض اللحظات، يدخل اللون كما لو أنه "اهتزاز"، كما لو أنه تردد صوتي يتسلل إلى الصورة. هذا اللعب بين الزمنين يمنح الفيلم بعدا تأمليا. من الناحية التمثيلية، تقدم منى زكي أداء يفضل التأويل على المحاكاة؛ إذ لم تحاول "أن تكون" أم كلثوم، بل أن تؤدي إمكانية من إمكانياتها. وهذا خيار ذكي لأنه يحرر الفيلم من فخ التقليد، ويمنح الشخصية مساحتها الإنسانية التي كان السيناريو يلمح إليها دون أن يصرح. فمنى زكي لا تقلد الالتفاتة أو طريقة الإمساك بالمنديل، بل تقلد الثقل الداخلي للمرأة التي تعيش بين صوت خارق وجسد هش. لكن الفيلم - رغم كل هذا - ليس بلا مشاكل. فهناك أحيانا شعور بأن المخرج متردد، وأن الرهبة من الاقتراب تؤدي إلى ابتعاد مبالغ فيه. وهذا ليس نقصا بقدر ما هو نتيجة طبيعية لمعالجة شخصية بحجم أم كلثوم. ومع ذلك، ينجح الفيلم في تقديم قراءة جديدة: السيرة ليست إعادة سرد، بل طريقة في النظر إلى الشخصية الرئيسية. فأم كلثوم ليست حدثا تاريخيا، بل تجربة حسية. والفيلم، بهذا المعنى، لا يحاول امتلاك الأسطورة، بل يحاول الاقتراب منها بهدوء. هنا سنجيب عن السؤال الذي طرحناه في البداية: تكمن قوة فيلم "الست" في هذه المسافة، المسافة بين السينما والذاكرة، بين الصورة والصوت، بين الأسطورة والإنسان. ولم يكن مطلوبا من الفيلم أن "يعيد" أم كلثوم، فذلك مستحيل. المطلوب هو أن يقدم طريقة جديدة لسماعها، ولرؤية الصمت بين نبراتها. وهذا ما نجح فيه: ففيلم "الست" يمنحنا فرصة لنفكر لا في أم كلثوم فقط، بل في تفاصيل الأسطورة برمتها".
سيرة حامد
بدأ مروان حامد مسيرته الفنية بالفيلم القصير، "ليلى" المتوَّج بعدة جوائز، قبل أن يوقّع فيلمه الروائي الطويل الأول "عمارة يعقوبيان" من بطولة عادل إمام ويسرا، والذي حصد العديد من الجوائز، وعُرض في مهرجانات كان وبرلين وشيكاغو ومراكش وغيرها من المهرجانات السينمائية الدولية.
ومن بين أفلامه اللاحقة "إبراهيم الأبيض"، و"الفيل الأزرق" الذي نال تسع جوائز من الجمعية المصرية للسينما وجائزة النيل الكبرى في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية؛ إضافةً إلى "الأصليون"، و"تراب الماس" الذي تُوّج بالجائزة الكبرى في مهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي، ثم "الفيل الأزرق 2"، و"كيرا والجن"، الحائز على عشر جوائز من جمعية الفيلم المصري وثلاث جوائز "جوي".


