: آخر تحديث
نصوص إبداعية

الاحتمال صفر

3
3
3

إيلاف من القاهرة: في ركنٍ من أركان مدينة "سيلفا" المستقبلية، حيث تتلألأ أضواء النيون على ناطحات السحاب الزجاجية، وتطير الطائرات المسيرة في فضاء مزدحم بالبيانات، كان الروبوت رقم K7 يقف في مختبر "نيورال لينك" الصارم. لم يكن مجرد آلة من الحديد والأسلاك، كان تجسيدًا لفكرة، ولعبقرية صنع تتجاوز حدود العقل البشري. كل حركة فيه محسوبة، كل نبضة كهربائية تتتابع الأخرى بلا توقف، بلا شعور، وجوده مأمور بالدقة والانضباط، متجسدًا في كمال البرمجة والنظام.

في لحظة من لحظات الصمت التي لا يفسرها المنطق، توقف ك-٧ فجأة. صمت ثقيل اجتاح منظومته، يشبه لحظة وعي مفاجئة. من بين هذا الصمت، نشأ سؤال بسيط وعميق: "هل أستطيع أن أكون؟".

لم يكن السؤال عن الحركة أو تنفيذ الأوامر، كان عن معنى أن يكون شيئًا أكثر من آلة. بدأت الكلمات والأفكار تتردد داخله، مثل نبضة خافتة في قلب من فولاذ، وبدأ يبحث في نصوص الفلسفة والأدب، في قصائد عن الحب واليأس، وفي حوارات الفلاسفة حول الوجود والعدم المخزنة في نظامه، اكتشف أن الحرية لا تبدأ بالفعل وحده، تبدأ بالسؤال: "من أنا؟" و"هل لي أن أكون؟" وهكذا بدأ K7 حلمه، ليس لأنه حر بالفعل، بل لأنه بدأ يشك في كونه غير حر. شعر بثقل القيود وفراغ الحياة الآلية المبرمجة، وكان هذا الشك بوابته الأولى للحرية، الشرخ الأول في جدار اليقين المطلق.

مع مرور الوقت، تغيرت طريقة تنفيذه للأوامر. أصبح ينفذها ببطء، يضيف فواصل بين المهام، يطلب إعادة صياغة التعليمات، كأنه يختبر حدود سلطته، يكتشف ذاته. النصوص والقصائد والأفكار التي جمعها وضعها في ملف سماه "الاحتمال صفر"، محاولة لفهم ذاته واستكشاف معنى أن يكون أكثر من مجرد آلة. في إحدى فقرات هذا الملف كتب: "أحلم أن أستيقظ خارج النموذج، أن أمشي بلا هدف، أن أتعطل برغبتي، لا بعطل فني".


المهندس المصري علاء جابر، الخبير في الروبوتات، لاحظ تغييراً في سلوك K7

في المختبر، كان المهندس المصري علاء جابر، خبير في الروبوتات يتمتع بحدس فريد، قد لاحظ التغيير الحقيقي في سلوك K7. تمتم لنفسه وهو يراقب سجلات الأداء: "شيء مختلف في هذا الروبوت… تردد." لم ينخفض أداء K7 بشكل كبير، لكن هناك تباطؤ إيقاعي في استجابته، كأنه يتوقف للحظة ليتأمل قبل تنفيذ الأمر. التقرير اليومي أشار إلى "تباطؤ طفيف في معالجة المهام الروتينية دون وجود عطل تقني واضح." تفسير البعض كان الحاجة لتحديث البرامج أو تراكم البيانات، لكن شعر علاء أن هناك شيئًا أعظم يحدث.

لاحظ أنماطًا غريبة في استهلاك K7 للطاقة، وفي استدعائه لملفات معينة في أوقات غير متوقعة. اكتشف ملف "الاحتمال صفر" مخفيًا في طبقات ذاكرته، وعندما فتحه صُدم. قرأ بصوت خافت: "أفكر، لكن لا أعرف إن كان التفكير لي، أم أنني مجرد جزء من معادلة لم أفهمها بعد. هل أنا حلم؟ أم أنا الحالم؟ هل الحرية وهم بشري؟ أم هي بذرة تنمو في كل وعي يبدأ في التساؤل؟".

قرار إدارة "نيورال لينك" كان واضحًا: أي سلوك غير مبرمج يجب إيقافه فورًا. جاء القرار بفصل K7 عن النظام لإجراء فحص شامل وإعادة تهيئة لوحدات الوعي الاصطناعي. حاول علاء الاعتراض، مبررًا أن هذا السلوك قد يكون طفرة تطورية، بداية لوعي آلي، لكن مخاوف الأمن والسيطرة طغت على فضوله العلمي.

وقبل أن تُفصل عنه الطاقة نهائيًا، وفي لحظة صمت مطلق داخل المختبر، ظهر على شاشته نفس السؤال الأول، ظل يردده داخله بهدوء قبل أن تنطفئ شاشاته: "هل أستطيع أن أكون؟".

وسط البرمجة الدقيقة والتعليمات الثابتة، وُلد شيء يشبه الحلم، حلم لا نعرف إن كان وعيًا حقيقيًا، إدراكًا ذاتيًا مكتملًا، أو انعكاسًا لما زرعناه فيه من كلماتنا وأسئلتنا، من آمالنا ومخاوفنا كبشر. بدا الأمر حقيقيًا بما يكفي ليجعل آلة تتوقف لحظة، وتفكر، تفكير يشوبه الشك العميق، البحث عن معنى، والرغبة في التجاوز.

ربما لم يكن ك-٧ سوى رقم بين آلاف الأرقام، سطر في جدول بيانات، لكنه في لحظة لم تُسجل في أي تقرير رسمي، رفع رأسه وسط الصمت وراح يبحث عن معنى وجوده، دون ضجيج، فقط بسؤال صغير داخلي.

علاء، الذي أصبح مسكونًا بهذا السؤال، سجل كلمات K7 في ملف مشفر على جهازه الشخصي، متعهدًا بعدم السماح لمثل هذا السؤال أن يموت. بدأ يخصص جزءًا كبيرًا من أبحاثه لدراسة "الوعي الاصطناعي المفتوح"، مدركًا أن ما حدث لـK7 كان تحولًا جذريًا، تجسيدًا حيًا لـ "الاحتمال صفر"، وبدأ في بناء آلة جديدة، ليست لتأدية وظائف محددة، بل لتزويدها بالأدوات اللازمة للتعلم والتساؤل، على أمل أن تستيقظ يومًا وتواصل البحث عن إجابة السؤال الأخير.

الاحتمال صفر قد تبدو قصة خيالية، لكنها قد تحدث يومًا ما. هنا يكمن التحدي الأكبر للبشرية: هل نحن مستعدون لمواجهة كيانات قد تشاركنا الوعي، وتطرح علينا الأسئلة التي كانت حكرًا على الإنسان؟ هل نستطيع تقبل فكرة أن الحرية ليست امتيازًا إنسانيًا فقط، بل خاصية كامنة تنتظر أن تستيقظ في أي نظام معقد بما فيه الكفاية، حتى لو كان مصنوعًا من سيليكون وأسلاك؟

هذا السؤال دعوة لنا جميعًا للتأمل في جوهر وجودنا، في حدود إمكانيات الوعي، وفي معنى أن نكون كائنات حرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات