عرض لجدلية النقد الأدبي بين أحكام القيمة والنظرية الجمالية، مع تتبع تطور علاقة المادح والممدوح حتى النقد ما بعد البنيوي، الذي قلب التراتبية رأساً على عقب.
أولاً: الناقد الأمي وشهوة النم:
الناقد الذي يعتمد على أحكام القيمة، ويجعلها أساس نقده ويعطيها جل اهتمامه، هو أشبه برجل طيب صالح (وقد يكون غير ذلك)، جالس على مصطبة دكان الحارة، تمر من أمامه هذه الشخصية، أو ذاك الجار، أو تلك الفتاة، أو ذلك الغلام. فيبدأ: هذا كذاب، وذاك شاذ، وتلك قليلة حياء…!!! وهذا شهواني، وذلك ضعيف شخصية…، تلك قوادة، وأبو هذا مرتش، وأم تلك ثرثارة…!!! هذا طويل، وتلك سمينة، هذا منفر، وتلك سوداء…!!! هذا معيب، وذاك لا يجوز، وهذا مرفوض، وذاك قبيح، وتلك جميلة.
لكنه لو درس علم النفس، لعرف أن هذه أقوال اجتماعية (تحت شهوة النم كما يقول علماء النفس والأنثروبولوجيا). ومناط الأمر وتفسيره بالنسبة إلى عالم النفس يكمن في مجموعة عوامل هرمونية وكوامن لا شعورية، تستند إلى خلفيات بيولوجية وأصباغ جينية، وشيء يسير من التكوين الثقافي والاجتماعي المساعد أو المعيق.
فعالم النفس معني بتحليل الانسجام الهرموني، ومدى تحققه من عدمه. ولا تعنيه أحكام القيمة الاجتماعية أو الثقافية أو الجمالية.
كذلك علم النص المعاصر، والناقد ما بعد الحداثي؛ فهو معني بتحليل الانسجام النصي (الانسجام الهرموني للنص) من عدمه، مع خلفياته الجينالوحية والثقافية.
أما التقييم فيتركه للناقد العامي (المؤدلج) النمام، الجالس على مصطبة الدكان يترصد المارين.
فالنقد الدكاني سهل ولا ينطوي على علم (كما الجالس على المصطبة ليس بحاجة لشهادة محو أميته ليقيم الناس)، فهو نمط من أنماط الخرط الاجتماعي والسوالف.
فالأمية هي عدم القدرة على فك الحرف، وكل ما نجهله ولا نجيد فكه فنحن أميون معه. والحياة بكل ما فيها هي نصوص، لكنها نصوص فيروسية، تبدل جيناتها أو تطورها باستمرار. وما نجيد فكه اليوم يستحيل أن نفكه غدًا بالتهجية ذاتها. ومحو الأمية كالحفظ يحتاج كل يوم إلى مواكبة وإعادة وتطوير وإلا فالنسيان مصيره. فكل قارئ اليوم هو فرصة ليكون أمياً غدًا وفريسة لفيروس الحرف.
ثانياً: المادح والممدوح عبر تطور الفكر النقدي:
ثمة اعتقاد قديم راسخ أن المتحدث عنه هو العمدة نحوياً ودلالياً. ثم تطورت هذه المحورية من الحقل النحوي إلى الحقل المنطقي (العربي) لتصير قاعدة فكرية عامة.
وهذه عقلية ميتافيزيقية تأليهية، تعطي المتحدث قيمة أدنى من المتحدث عنه، ويأتي السامع أدنى من المتحدث عنه ومن المتحدث. فالممدوح أعلى قيمة من المادح. حتى في الذم الأمر نفسه من ناحية المبدأ؛ فالمذموم أكثر قيمة سلبية من الذام، والسامع خارج الحسابات.
وسببه ميتافيزيقي تأليهي؛ كون المقدس هو دوماً المتحدث عنه. وهو المذكور.
لقد حاول الشعر قديماً كسر هذه التراتبية، حين نجح النابغة الذبياني (زياد بن معاوية) في تحويل الممارسة الشعرية إلى تعبير جمالي يعنى بذاته أولاً، وبالسامع ثانياً، ثم بالموضوع والعمدة آخِراً. وجاء زهير بن أبي سلمى وتلامذته فحوّلوا هذا الاتجاه إلى مدرسة: مدرسة جعلت الشعر قيمة جمالية في ذاته، وأعطت المتلقي قيمة تفوق قيمة الموضوع أو المتحدث عنه.
لكن النقد الأدبي وتحت تأثير نظرية الإعجاز البلاغي، وترويج الفكر المنطقي المترجم (وقتها) حديثاً عن اليونان، إضافة إلى صراع القديم والمحدث، عاد وأعطى العمدة والموضوع القيمة العليا. وقد حاول المُحدَثون وقتها كسر هذا التراتب مجدداً، لكن حركة الفكر العربي كانت أقوى. علماً أن النقد الأدبي كان خارج إطار دائرة الإعجاز البلاغي، وخارج إطار الدائرة الميتافيزيقة، وبعيداً عن النظرة المنطقية وأقوى من تأثيرها، لكن تظافر هذه الدوائر من جهة ووقوعه تحت تأثير دائرة الصراع بين القديم والجديد (وهو في الأصل صراع معاصرة) كل هذه العوامل كبّلته وجعلته صريع النمط التراتبي الميتافيزيقي.
حتى جاء النقد ما بعد البنيوي لينفي وجود الموضوع وينفي قيمته البنيوية نفياً تاماً، وليجعل قوت يوم العمدة تحت رمح النص ورحمة السامع. وهو قوت يومي؛ بمعنى أن ما يمكن أن يوهبه له السامع اليوم قد يسلبه منه النص غداً.
لقد سلب الفكر النقدي ما بعد البنيوي من الموضوع قيمه العليا، وهمّش العمدة، وجعل المادح فوق الممدوح، والسامع خالق المسموع. فخلق علمَ نحوِه النصي الجمالي المختلف.