: آخر تحديث

أبحث عن الشعر: مروان ياسين الدليمي وصوت الشعر في ذروته

3
5
3

 ذهبُ اللغة وسط أنقاض العالم

عن "دار الميثاق/الموصل2025" صدر كتاب شعري بعنوان "أبحث عن الشعر" للشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي، يشكّل تجربةً شعريةً فريدةً تتجاوز حدود التنقيب اللغوي أو الاجتهاد التقني، لتصبح استغاثة ناعمة وسط صخب العالم، كأنّ الشاعر يُنصت إلى صوت داخلي لا يكفّ عن النداء. يتألف الكتاب من 140 صفحة، ويضم النص 168 مقطعاً، تتخذ شكل قصيدة نثرية مفتوحة، تقوم على بنية فسيفسائية لا تسير بخط تصاعدي أو سرد تقليدي، بل تُقارب سؤال الشعر من زوايا متعددة: "ما هو الشعر؟" و"أين يمكن أن يوجد؟".
كل مقطع في هذا النص الطويل، قابل للقراءة كوحدة مستقلة، لكنه أيضًا جزء من نسيج نصّي كلّيّ يتسم بالتكرار والتيه والبحث الدائري، في محاكاة ذكية لفكرته المركزية: أن الشعر لا يُعرّف ولا يُمسك، بل يُقترب منه مرارًا دون أن يُطال.
النص ذو طابع تأملي، فلسفي، شاعري، وسريالي، يُكثف الصور الحسية والرمزية ليُقارب الشعر ككائن مراوغ، لا يُعرّف ولا يُمسك.
يتساءل شاعرنا: "لماذا نكتب؟" من داخل التجربة التي تحترق في الجسد والذاكرة. كل عبارة في "أبحث عن الشعر" تقول ما يشبهها تمامًا: شاعر لا يرفع راية النحيب، يضع الكلمة كمرآة أمام الألم. هكذا تتحوّل الكتابة إلى طريقة في البقاء، إلى "صمت عالٍ"، كما في شعر أوكتافيو باث الذي قال: «القصيدة جرح يُغني».

ما يميّز هذا النص أنه لا يبحث عن الشعر في مكانه التقليدي. لا يراه محصورًا في القصيدة أو الشكل الوزني، يراه في ارتعاش اللغة حين تلامس المعنى دون أن تروضه. يكتب الدليمي:
«ربما الشعر ليس ما كتبت، بل ما فشلت في محوه».
بهذا التصور، يصبح الشعر أثرًا لا يُمحى، لا نصًا منجزًا. وتصبح الكتابة نوعًا من إنقاذ الروح من السقوط الكامل، أو على حد تعبير خورخي لويس بورخيس: "الشعر هو لحظة يتوقف فيها الزمن".

خرائط الألم ومجازفة الاعتراف

في النص، لا نعثر على تنظير أكاديمي، بل نقرأ الاعتراف بكرامة مجروحة، ونلمس محاولة لتثبيت الملامح قبل أن تبتلعها الفوضى. في جملة مشهديه مرّة، كتب في نص أسبق:
«الوطن… ينام على سرير صدئ في جناح مكتظ، ويُسقى بالكانيولا… مثلنا تمامًا».
هنا، يصبح الوطن مريضًا سريريًا، لا ينهض ولا يُحتفى به، بل يُسقى بالمحاليل مثل جسد معطوب. لا يتعامل الدليمي مع الوطن بوصفه مكانًا للتمجيد، بل ككائن هش، مثل الشاعر، مثل اللغة، مثل المعنى نفسه.
وبدل أن يضعنا أمام سردٍ متماسك، يمنحنا شذرات متوترة، مقاطع قصيرة مكثفة، وصورًا بصرية صادمة، كأن كل جملة فيه تشكّل عتبة لباب لا يُفتح، أو صدى لجملة أعمق لم تُكتب بعد.
في هذا السياق، نجد أصداء لفكر الفيلسوفة ماريا ثامبرانو، حين قالت إن الكتابة الحقيقية هي "شهادة الروح على لحظة توترها القصوى مع العالم". وهذا ما يفعله الدليمي دون تنظير: يكتب من الحد، لا من القاعدة.
القصيدة بوصفها كائنًا لا يُكتب، بل يُربّى، هو منطق التكوّن الداخلي. فالقصيدة في هذا النص تُعامل ككائن حي:
"القصيدة تمشي،
تنام،
تتدلّى من الهواء،
ترفضُ أن أوقّع باسمها."
هنا، الشعر يملك إرادة. يُنتظر. يُنصت له وهو يتكوّن في المسافة بين الخوف واللغة. هذا ينسجم مع فكرة ماريا ثامبرانو أيضًا: أن "القصيدة لا تُقرَّر، بل تُستدعى، تُستضاف، ويجب تهدئة الداخل كي لا تهرب".
الزمن، اللغة، الذات: ثلاثية غير مستقرة في هذا النص. فالزمن دائري، لا ماضٍ ولا مستقبل، فقط لحظة شعرية تتكرر وتراوغ:
"الشعر هو ما لم يحدث بعد…
لكنه يترك أثره منذ الآن."
اللغة متشككة: تُكتب لتُخفي، لا لتُفهم:
"اللغةُ ليست وسيلتي،
بل مرضي."
والذات تتفكك داخل القصيدة، فالشاعر ليس "أنا" واضحة، بل أثرٌ في السطر، ظلّ في جملة، قلق في مفردة:
"أنا مجرد الفكرة التي نسيتها على السطر الرابع،
حين خفتَ من نفسك."
ثمة إيقاع داخلي يولّده التوقف، التوازي، والانقطاع. كثير من المقاطع تنتهي فجأة، أو تُترك معلّقة، وكأنها تخشى قول ما لا يُحتمل:
"أكتب…
لا كي أقول،
بل كي أتهجّى نفسي."
هنا، الصمت بين "أكتب…" و "لا كي أقول" هو المعنى الأثقل. هذا النوع من الإيقاع يحيل إلى ما يسميه موريس بلانشو:
"الكتابة التي تصغي لما لا يُقال، لا تملأ البياض، بل تنقّطه بتردّدات الكينونة."
حتى التكرار في هذا النص هو بناء متعمّد يشكّل موسيقى المفهوم. تكرار الجملة الافتتاحية ("الشعر هو...")، أو انبثاق سؤال ("ما الشعر؟")، يخلق دوّامة فكرية–شعرية:
"الشعر هو ما لا يحدث،
لكنه يترك ظله."
"الشعر هو ما كنتُ سأقوله،
ثم سكتُّ."
"الشعر هو ما بقي بعد أن جفّ الدمع،
وتفتّت الصوت."
هذا التكرار تفكيكي أكثر منه تعريفي: في كل مرّة يُقال "الشعر هو"، يتم نفي الإمساك به! هكذا، تتحوّل القصيدة نفسها إلى أداة تيه، يتكرر فيها الحضور لينقض ذاته.

جمالية الانكسار وصوت الخارج من الردم

النص يسعى أن يكون صادقًا حدّ القسوة. كل صورة فيه مقلوبة: الجرح يغني، السكوت يصرخ، والانهيار يضيء.
هو مُبدع يُكتَب بالشعر. دون استعارة نبرة، يصنع صوته من ضجيج الداخل. نبرته الخاصة غير اعتذارية، لكنها أيضًا ليست بطولية، بل مزيج نادر من الاعتراف والكتمان، من الحنين والخذلان، من البسالة والانكسار.
ما يفعله في هذا النص هو تحويل القصيدة إلى مشهد، والجملة إلى لقطة، كأننا في نص سينمائي شعري. لا لأن هناك حكاية، بل لأن هناك كاميرا داخل اللغة.
الشعر في النص كائن حسيّ متعدد الحواس، وهذا أحد أعمدة بنائه: بتوظيف وتفعيل جميع الحواس في إنتاج المعنى الشعري. وهذا ينسجم مع ما يسميه غاستون باشلار "التجربة الشعرية الكاملة"، أي تلك التي تستنفر الجسد قبل اللغة:
"حين أقرأ قصيدة جميلة،
أغلق عيني،
كي لا أفسدها بالنظر."
هنا، تُعطّل حاسة البصر كي يُسمع الصمت، وكأنّ البصر قد يُشوّه الشعر لا يكشفه. يتجاوز النص المفهوم التقليدي للصورة بوصفها تشبيهًا أو استعارة. فهو لا "يصوّر" المعنى، بل يجسّده عبر انفعالات حسّية وتكوينية. الصورة هنا لا تشرح، بل تُسكن:
"أحفر الكلمات بأظافر النوم
كي أصحو داخل سطر."
تبتعد الصورة عن التزيين، وتعتمد على تحويل المفهوم إلى تجربة بدنية. بدل أن تقول القصيدة "النوم"، تصير النوم الذي يحفر الكلمات.
"أجلس قرب كلماتي
كما يجلس الأب قرب سرير ابنه النائم."
هذا تشبيه يتجاوز الوظيفة البلاغية إلى إنتاج عاطفة وظليه كاملة. الأب لا يفعل شيئًا... فقط يحرس الحلم الذي لا يفهمه. وهكذا يُفهم الشعر — كحلم يُحرس لا يُفسّر.

قصيدة الوجود الخافت في ذروة التجربة الشعرية

في هذا النص، نقرأ الشاعر لا كمنظّر، بل ككائن جريح يلتقط أنفاسه بالحبر. لا نستقبل من نصه الملحمي هذا أجوبة، بل نتلقى أسئلة متعبة تمشي على عكاز الحروف. لم يدّعِ خلاصًا، بل قدّم لنا ورطة: ورطة الجمال وسط البشاعة، ورطة المعنى وسط التكرار.
ولعل ما يميّز هذه التجربة أنها لا تُطلب لذاتها، بل لأنها الوسيلة الوحيدة للنجاة من الموت الرمزي. هذه القصيدة ليست خلاصًا، بل قصيدة يقظة.
يمكن القول بثقة إن "أبحث عن الشعر" تمثّل ذروة كتابية في مشروع مروان ياسين الدليمي، لأنه نص لا يسكن في خانة، ولا يرتاح في تصنيف. إنه أدب الشهادة الشعرية بكل ما تعنيه الكلمة. عملٌ مكتوب من رماد المدن لتسمية وجعها. لا للاستسلام لغياب الوطن، بل لإعادة تعريفه بوصفه احتمالًا لغويًا، لا واقعًا سياسيًا.
إنه نصّ ينقذ الشعر من الشعرية، والكتابة من الزينة. يحوّل اللغة إلى خشبة نجاة، ويحوّل المعنى إلى سؤال مفتوح. وكأن كل ما كُتب من قبل كان تمهيدًا لهذه الشذرات: لحظة توقّف فيها الزمن، فتكلم الشعر وحده.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات