الحياة أشبه بصيغةٍ لغويةٍ مسترسلة، سيل لا يتوقف، فعلٌ جارٍ بلا نقطة نهاية منظورة، لكنه يسير بسرعات غير متساوية. بعضنا يهرول، وبعضنا يتثاقل، غير أن الجميع، دون استثناء، يتحرك في الاتجاه ذاته. نحن نموت في كل لحظة، لا بوصف الموت حدثًا آتيًا فحسب، بل باعتباره عملية جارية، استنزافًا بطيئًا للزمن المختزن في الجسد والوعي. والمفارقة أن حقيقة بهذه البداهة، بهذه العري الفلسفي، تُقصى عادةً من الفضاء العام، وتُستبعد من الحسابات الكبرى، وكأنها تفصيل محرج لا يليق بعصر التخطيط والحوكمة والتوقعات.
في زمنٍ تزدهر فيه أقسام الاستشراف المستقبلي، وتغوينا فيه صناديق الاستثمار بالحديث عن «المستقبليات» بصيغة الجمع، وكأن المستقبل مخزنٌ لا ينفد، قررنا، بوعي أو بدونه، أن نُقصي حقيقة تأسيسية: أن شرطنا الإنساني قائم على وعي غير قابل للمساومة بالموت. لم نعد ننكر الموت فحسب، بل صرنا نبني أنظمة كاملة على افتراض ضمني بأنه طارئ، استثناء، خلل يمكن تأجيله أو التفاوض معه. وهكذا يتحول الموت من يقين أنطولوجي إلى حادث تقني، ومن ضرورة وجودية إلى فشل إداري.
كونُنا فانون لا يرتبط فقط بحقيقة أننا سنموت، فهذه حقيقة تشترك معنا فيها الكائنات جميعًا. المحار والعقعق، الشجر والحيوان، جميعها محكومة بزمن محدود. غير أن ما يميز الإنسان هو هذا الوعي الجارح: نحن نعلم أننا سنموت. حين تحدث اليونانيون القدماء عن «الفانين»، لم يكونوا يشيرون إلى كل من يموت، بل إلى الكائن الوحيد الذي يحمل موته في وعيه. ذلك الوعي المأساوي، ذلك الشكل من الحكمة الذي يكاد يكون ملعونًا، هو ما يمنح الحياة الإنسانية معيارها، وعمقها، وثقلها الأخلاقي. فالحياة لا تُقاس بطولها، بل بقدرتها على تحمّل هذا الوعي دون انهيار.
من هنا، يصبح الموت ليس نقيض الحياة، بل شرطًا لفهمها. إن إدراك الفناء لا يقلل من قيمة العيش، بل يمنحه كثافة. من لا يعلم أنه سيموت، يعيش بلا استعجال، بلا مسؤولية، بلا توتر خلاّق. أما من يعرف، فإنه يعيش في حالة انتباه دائم، كمن يسير على حافة هاوية: قد يتعثر، لكنه يرى.
ولهذا السبب بالذات، تكتسب مسألة اقتراب الأطفال من موت الآخرين أهمية تربوية وأخلاقية عميقة. ليس في الأمر قسوة، ولا تعويدًا على الفقد، بل إدخال مبكر إلى الحقيقة الكبرى التي ستلازمهم طوال حياتهم. أن يعرف الطفل أن الموت ليس استثناءً، بل جزء من النسيج الكوني، يعني أن نمنحه أداة لفهم العالم، لا صدمة مؤجلة. في هذا السياق، تبدو تجربة رؤية الجسد الميت، حتى لو كان غريبًا، لحظة تأسيسية: انتقال من البراءة العمياء إلى الوعي الأول بالفناء.
«كما هو حال كل اليقينات الكبرى، اتخذ الموت أعداءً يصرّون على إخفاء ما يبدو صحيحًا بوقاحة.»
هذه الجملة تختصر مأساة العصر الحديث. فالموت، لأنه يقين لا يُدجَّن، أصبح غير مرغوب فيه. نحن نعيش في عالم ناعم، مُبطَّن بالصور، محكوم بالافتراضيات، حيث يُخفي الزمن تجاعيده خلف الفلاتر، وتُجمَّل الأجساد لتبدو خارج التقادم. كل ما يذكّر بالفناء يُدفع إلى الهامش: المستشفيات، دور المسنين، المقابر. الموت يُدار إداريًا، لا يُرى، لا يُناقش، لا يُفكَّر فيه.
غير أن هذه المحاولة للهروب لا تُنتج إلا هشاشة أعمق. حين يُنزَع الموت من المشهد، تُنزَع معه الجدية. نفقد القدرة على التمييز بين ما يستحق وما لا يستحق، بين العابر والجوهري. يصبح كل شيء قابلاً للتأجيل، لأن النهاية غير مرئية. وهكذا، بدل أن يكون الموت معلّمًا للحياة، يتحول إلى مفاجأة صادمة، إلى فضيحة غير متوقعة.
إنَّ التعرض لموت الآخرين ليس طقسًا جنائزيًا فحسب، بل تمرينًا أخلاقيًا على الاعتراف بالمشترك الإنساني. جميع الثقافات، على اختلافها، قدّست موتاها، لا حبًا بالموت، بل احترامًا للحياة التي انتهت. جعل الموت مرئيًا هو شرط لبصيرة أخلاقية ناضجة، لأنه يعيدنا إلى المعيار الأصلي: إلى ذلك «المؤشر المرجعي» الذي نقيس به كل تجاربنا. من دون هذا المعيار، تصبح القيم نسبية بلا مرساة، والطموحات بلا سقف، والخسارات بلا معنى.
وإذا كان الموت ضرورة لا مهرب منها، فإن الطريقة الوحيدة لمواجهته ليست إنكاره، بل الاعتراف به. لا نحتمي من الموت بالوهم، بل بالمعرفة. أن نعلم أنه آتٍ لا محالة لا يعني الاستسلام، بل العكس تمامًا: يعني أن نعيش بكثافة أعلى، بصدق أشد، وبمسؤولية أعمق. فالموت، حين يُفكَّر فيه، لا يُنقص الحياة، بل يحررها من التفاهة.
أنا أموت. وأنت أيضًا.
وهذه ليست دعوة لليأس، بل نداء لليقظة.


