: آخر تحديث
هل كان سيغرّد أم يذوب في الضجيج؟

لو كان المتنبي بيننا اليوم

1
2
2

تخيّلوا إشعارًا على هواتفكم ينبّه: "المتنبي غرّد الآن!" كيف ستتصادم عظمة بيت شعري مثل: "إذا غامرتَ في شرفٍ مروم" مع ضجيج الأخبار اليومية، والتحديثات السريعة التي لا تتوقف؟ هل سنراه شاعرًا يبحث عن أميرٍ يرعى قصيدته كما كان يفعل في العصور الماضية، أم زعيمًا رقميًا يتابعه الملايين في لحظة واحدة، يلتقطون كلماته بين إشعارات الأخبار القصيرة والفيديوهات المتتابعة؟ هذا السؤال ليس خيالًا بقدر ما هو مرآة نطلّ منها على معنى الكلمة بين الأمس واليوم، بين الخلود والضجيج الرقمي.

كان المتنبي شاعرًا هائمًا على وجه الزمن، يرفض أن يحدّه زمان أو يقتله مكان. لم يكن شاعر مدحٍ فحسب، بل كان في كل بيت يصوغ قوة وجمالًا يظلان خالدين. لم يرضَ أن تكون كلماته مجرّد صدى في بلاط أمير، بل أرادها صرخةً تبقى في ذاكرة البشر. ولو عاش اليوم، لوجد في التكنولوجيا جناحين يرفعانه فوق القارات، حيث تنتشر كلماته بسرعة الضوء، وتُترجم فورًا، وتلامس القلوب قبل العيون، وتنتشر عبر الشبكات الاجتماعية كما تنتشر التغريدات والهاشتاغز. لكنه، في المقابل، كان سيواجه تحدّيًا جديدًا: ألّا تضيع صرخته وسط بحر الإشعارات، والعبارات القصيرة، والضجيج الرقمي المتزايد.

في هذا الطوفان، يمكن لأي شخص أن ينشر فكرة أو صورة أو كلمة، لكن قليلين فقط يتركون أثرًا يبقى. وهنا تكمن العبرة التي يقدّمها لنا المتنبي من جديد: ليست التقنية وحدها ما يخلّد الكلمة، بل صدقها وعمقها وحرارتها. لقد آمن أن الشعر معركة ضد النسيان، وأن الكلمة الصادقة هي السيف الحقيقي. ولو عاش بيننا اليوم، لقال ربما: "التكنولوجيا تمنح الجناحين، لكن الصعود لا يكون إلا لمن يملك قلبًا وعقلًا كبيرين".

التكنولوجيا ليست عدوًا للكلمة، بل امتحانها. من يكتب بسطحية يذوب في سيلٍ لا نهاية له من العبارات، ومن يكتب بصدق يبقى، مهما تغيّرت الوسائل. المتنبي الذي حلم يومًا بالملك، ربما وجد في الإنترنت إمبراطورية أعظم، لكنه ما كان ليتنازل عن شرط الخلود: أن يقول شيئًا يستحق أن يُقال، كلمة تعيش أطول من التغريدة، أطول من أي إشعار أو موجة إعلامية.

الملوك الذين مدحهم رحلوا، لكن قصيدته ما زالت تسكن الذاكرة. واليوم، في زمن تتناوب فيه الشاشات على خطف انتباهنا، يكمن التحدّي الأكبر في أن نصنع كلمات لا تذوب في عتمة النسيان. ولعلّ أجمل ما يتركه لنا المتنبي في هذا الخيال سؤالًا مفتوحًا لكل كاتب وقارئ: هل كلماتنا اليوم تملك القوة لتبقى بعد أن تنطفئ الأضواء الرقمية، أم أننا نسمح للتقنية أن تبتلع أصواتنا قبل أن تصل إلى القلب؟

الجواب، كما علّمنا المتنبي، ليس في الوسيلة، بل في القلب والروح. فالروح التي تجرؤ أن تقول: "أنا الكلمة التي لن تموت" هي وحدها التي تهزم النسيان، وتحقّق الخلود الحقيقي للكلمة في كلّ زمان ومكان، سواء كان على ورق أو شاشة، بين البلاط أو بين التغريدات والإشعارات الرقمية.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.