: آخر تحديث

سِلاح يهدّد الأمنَ العالمي

3
3
3

في لبنانَ، لم يُعدُّ سلاحُ «حزب الله» مجردَ ملفٍّ خِلافِي دَاخليّ، بل تحوَّلَ إلى قضيةٍ دوليةٍ تهدّدُ السَّلمَ العالميَّ وتعيقُ قيامَ الدَّولة، وتعطّلُ النّظامَ السّياسِي بأكملِه، ورغم التَّفاؤلِ الحَذرِ الذِي عبَّرَ عنه المبعوثُ الأميركيُّ توم برَّاك بشأنِ الرَّدّ اللبنانِيّ علَى مَلفِّ نزعِ سِلاح الحِزب، فإنَّ الموقفَ المتكرّرَ لقيادةِ الحِزبِ لا يَتركُ مجالاً للشَّكِ بأنَّها مُتمسكةٌ بالسّلاحِ، كمَا جاءَ ذلكَ علَى لسانِ نعيم قاسم الأمينُ العامُّ للحزب: «لا يُقالُ لنَا اتركُوا السّلاح»، وهذَا الكَلام ليسَ موقفاً تعبويّاً، بل إعلانٌ صَريحٌ بأنَّ السّلاحَ بات هويةً بديلةً عن الدَّولةِ نفسِها، ومِترَاساً لتثبيتِ النُّفوذِ لا لِتَحريرِ الأرض.

والنَّموذج ُالقائمُ على احتكارِ حزبٍ أو فصيلٍ للقُوَّةِ خارجَ مُؤسساتِ الدَّولة، لا يقتصرُ على لبنانَ، بل نَراهُ في اليَمن، ولكنَّه ازدادَ بصيغةٍ أكثرَ تصعيداً من ذي قبل، فقدْ حذَّرَ وزيرُ الإعلامِ فِي الحكومةِ اليمنية، مُعمر الأريَاني، الأسبوعَ الماضي، من بدءِ توطينِ برامجِ تصنيعِ الصَّواريخِ البَاليستيةِ والطائراتِ المسيَّرةِ في مناطقَ خاضعةٍ لسيطرةِ الحُوثيين، وتحديداً في صعدة، وحجة، وأريافِ صنعاءَ، وَوَفقاً لتحذيرِ الأرياني، فإنَّ الوضعَ تجاوزَ مرحلةَ التَّهريبِ إلى مَرحلةِ نقلٍ مُنظَّمٍ لِقُدراتٍ عسكريةٍ متقدمةٍ إلى بيئةٍ لا تخضعُ لأيِّ رقابةٍ شرعيةٍ، ولا تعترفُ بمفهومِ الدَّولةِ الوطنية.

التَّحولُ من استخدامِ السّلاحِ إلى تصنيعِه داخلَ مناطقَ خارجةٍ عن السَّيطرة لا يهدّدُ اليمنَ فَحسب، بل يدفعُ بالأمنِ الإقليميّ والدوليّ إلى حافةِ الخَطر، فموقعُ اليمنِ الجغرافيّ عند مضيقِ بابِ المَندب وبحرِ العَرب، يجعلُه نقطةَ عبورٍ حيويَّةٍ للتّجارةِ العالمية، وأيُّ توتُّرٍ أو تصعيدٍ في هذه المنطقةِ من شأنِه أن يُزعزعَ استقرارَ المِلاحةِ الدَّوليةِ وسَلاسلِ الإمدادِ العالمية.

هذه التحذيراتُ لا تبدُو معزولةً عن السّياق الدولي، فقدْ أشارَ تقريرٌ صادرٌ عن مركزِ دراساتِ الدّفاعِ الوطنيّ الكنديّ عام 2022 إلى أنَّ الحوثيين، إلى جانبِ أربعِ جماعاتٍ أخرى في المِنطقة، قد طوَّروا برامجَ طائراتِ مسيَّرةٍ متقدمةٍ ومستدامة، تختلفُ في أساليبِها، لكنَّها تتشابه في خطورتِها، وأكد التقريرُ أنَّ الخطرَ الحقيقيَّ لا يكمنُ فقط في امتلاكِ هذه التَّقنيةِ، بل في دمجِها داخلَ عقيدةٍ عسكريةٍ هجوميةٍ خارجَ أيِّ إطارٍ قانونيّ أو رقابيّ.

التقريرُ شدَّد علَى أنَّ الابتكارَ والتكيُّفَ السَّريعَ فيما يخصُّ هذه البَرامج، لا سيَّما داخلَ بيئاتٍ غيرِ خاضعةٍ للدولة، يمثّلُ تحدياً بالغاً لا يمكنُ مواجهتُه بالطُّرقِ التَّقليدية، فكلُّ جماعةٍ مسلحةٍ، وفقاً للتقرير، طوَّرتْ نمطاً خاصاً بهَا في استخدامِ المسيَّراتِ بمَا يتوافقُ مع مسرحِ عملياتِها وأهدافِها، ما يجعلُ هذه البرامجَ مَرنةً، وقابلةً للتَّوسع، وأكثرَ تعقيداً من أن تُعالجَ بردودٍ فعلٍ ظرفية.

ما نشهدُهُ اليومَ لا يمكنُ تفسيرُه على أنَّه أمرٌ عَابرٌ وآنيٌّ، ولكنَّه جاءَ نتيجةَ مسارٍ طويلٍ من تراكمِ السّلاح النَّوعِي بأيدِي جماعاتٍ لا تعترفُ بسيادةِ الدَّولة، ولا تتردّدُ في توظيفِه عبرَ الحُدود، في تحدٍ صريحٍ للدولةِ، وإذا كانت تجربةُ «حزب الله» في لبنانَ قد انتهتْ إلى شللٍ سياسيّ وهيمنةِ فصيلٍ على أركانِ الدولة، فإنَّ ما تبنيه جماعةُ الحوثي في اليمن يُنذرُ بما هو أخطر، فهو تهديدٌ مفتوحٌ للأمنِ البحريّ العالميّ. لأنَّ التهديدَ قريبٌ من موقعٍ مائيّ ومن أكثر المضائقِ حيويَّةً في سلاسل الإمدادِ.

الخطورةُ تكمنُ في الفراغِ السّياسيّ الذي يتيحُ لهذه الجماعاتِ تطويرَ السّلاح وتخزينَه وتشغيلَه، دون مساءلةٍ أو رقابةٍ من أحدٍ، وفي منطقةٍ بالغةِ الحساسية مثل جنوبِ البَحرِ الأحمر، فإنَّ أيَّ عملٍ اعتباطيّ، قد يشعلُ أزمةً تمتدُّ خارجَ حدودِ النّزاع اليَمنيّ.

ومعَ هذا فإنَّ مسؤوليةَ الحكومةِ اليمنيةِ الشَّرعية ليست فقط في التَّعبيرِ عن المَخاوفِ، بل في تعزيزِ حضورِها السّياسيّ والنُّهوض بمجهودِها لمواجهةِ هذا الخَطر، ولو أدَّى ذلكَ إلى طلبِ دعمٍ دوليّ لضبط هذا الوضع. كمَا أنه ينبغِي إيجاد وسيلة لإعادة الحوثي إلى طاولة الحوار، لمحاولةِ اكتشاف مخرج للأزمة برمتها.

إنَّ تركَ هذا النَّوعَ من السّلاح في بيئةٍ غير خاضعةٍ للحكم، سيحوّل اليمنَ من ساحةِ صراعٍ داخليّ إلى منصةِ تهديدٍ عالميّ.

إنَّ التعاملَ مع ملفّ الطائراتِ المسيَّرة والصواريخِ الباليستية الخارجةِ عن سلطة الدّول أضحَى ضرورةً ملحةً تتطلب تحركاً دوليّاً منسقاً، فحينَ يُصنع السّلاحُ في الظّل، ويختبرُ في البَحر، ويُطلقُ عبرَ الحدودِ، فإنَّ الحديثَ عن الأمن المحليّ يفقدُ معناه؛ لأنَّ التهديدَ باتَ عالميّاً... والسّلاح لم يعدْ يَعرف حدوداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد