في مقاله المنشور مؤخراً في دورية "السياسة الخارجية" الأميركية تحت عنوان "إسرائيل لا يمكن أن تكون دولة مهيمنة"، قدّم ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعتي هارفرد وشيكاغو، وأحد أبرز منظّري المدرسة الواقعية، أطروحة لافتة بشأن العوائق البنيوية التي تعترض طموحات إسرائيل لفرض هيمنة إقليمية شاملة
يرى والت أنَّ امتلاك إسرائيل لتفوّق عسكري وتكنولوجي نوعي لا يعني بالضرورة امتلاكها القدرة على الهيمنة الكاملة على محيطها. فهذا التفوّق، الذي تأسّس على ثلاثة أعمدة رئيسية، وهي القدرات العسكرية المتقدّمة، التماسك القومي والمؤسساتي، والدعم الغربي السخي، وعلى رأسه الأميركي، لم ينجح في تغيير الطبيعة الصراعية للبيئة الإقليمية المحيطة بها. إذ ما تزال إسرائيل تواجه تحديات جسيمة من قوى "لا دولتية" كحماس وحزب الله والحوثيين، وهي قوى أثبتت مراراً أنّها قادرة على إرباك إسرائيل واستنزافها، بالرغم من اختلال موازين القوة التقليدية.
ما طرحه والت اكتسب راهنيته من التطورات المتسارعة في الإقليم، خصوصاً بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، التي نفّذتها حركة حماس، والتي شكّلت نقطة تحوّل في إدراك حدود السيطرة الإسرائيلية على المجال الأمني. فقد كشفت العملية هشاشة المنظومة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، بالرغم من عقود من الاستعدادات والتفوّق التقني، وأظهرت أنّ التفوّق لا يُترجم تلقائياً إلى قدرة على فرض الاستقرار أو تحييد التهديدات.
فحركة حماس، التي كانت تُصنّف ضمن القوى المحاصرة والمحدودة التأثير، نجحت في جرّ إسرائيل إلى معادلة استنزاف مركّبة سياسياً وعسكرياً، فيما أضاف الحوثيون بعداً جغرافياً جديداً للصراع، من خلال هجماتهم على الملاحة في البحر الأحمر، ما دلّل على انتقال المواجهة إلى ساحات متعددة خارج الدائرة الأولى للصراع، وعزز شعور إسرائيل بالانكشاف الاستراتيجي.
في هذا السياق، يُشير والت إلى تحوّل جوهري في طبيعة الخصوم، من جيوش نظامية تقليدية إلى فواعل "لا دولتية" مرنة، تتبنّى استراتيجيات الاستنزاف، وتتحرك بتكتيكات غير تقليدية تتحدّى أنماط المواجهة الكلاسيكية. وهذا ما يجعل مشروع الهيمنة الإسرائيلية يواجه إشكالية عميقة، إذ لم تعد الحرب تدار في ساحات مكشوفة، بل في بيئة رمادية ومعقدة، يصعب حسمها بوسائل تقليدية.
وفي نفس الإطار جاءت حرب الاثني عشر يوماً (13 حزيران – 25 حزيران) بين إسرائيل وإيران لتؤكّد هذه المعطيات، وتُظهر مجدداً حدود القوة الإسرائيلية في ظل بيئة إقليمية تتّسم بالتعقيد والتشابك. فبالرغم من الضربات الجوية المكثفة التي شنّتها إسرائيل على مواقع عسكرية وأمنية ومنشآت خاصة بالبرنامج النووي الإيراني، لم تنجح إسرائيل في تحقيق "ردع حاسم"، بل وجدت نفسها أمام صواريخ إيرانية طالت الداخل الإسرائيلي وألحقت دماراً ملموساً في بعض المدن الإسرائيلية، ما أظهر هشاشة نظرية "الردع من خلال التفوّق الجوي والتكنولوجي"، وأظهر كذلك أنّ قدرة إسرائيل على فرض إرادتها في بيئة إقليمية مفعمة بالتحولات، لم تعد كما كانت.
إلى جانب التحديات الخارجية، يُبرز والت هشاشة الداخل الإسرائيلي، حيث يتآكل التماسك الوطني تحت وطأة الانقسامات السياسية الحادة، وصعود التيارات اليمينية المتطرفة، وتنامي النزعات الفاشية داخل بعض مؤسسات الدولة. وهو ما يُضعف قدرة إسرائيل على بلورة استراتيجية إقليمية متماسكة، ويُقوّض مناعتها الاستراتيجية، فالدولة المنقسمة على نفسها يصعب أن تكون قادرة على ممارسة الهيمنة الفعلية خارج حدودها. وقد بدأت هذه المعضلة تلقى صدى داخل إسرائيل نفسها، حيث تُقرّ بعض دوائر النخبة الأمنية والعسكرية بأنّ استراتيجية "الردع عبر الهيمنة" تواجه تآكلاً متسارعاً، كما ظهر في تقارير صادرة عن مركز هرتسيليا ومعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، والتي حذّرت من تآكل الردع وفقدان إسرائيل زمام المبادرة الاستراتيجية.
أمّا ركيزة الدعم الأميركي، التي لطالما شكّلت ضمانة استراتيجية لإسرائيل، فهي الأخرى بدأت تتعرّض للاهتزاز. فعلى الرغم من استمرار الدعم العسكري والمالي، إلا أنّ التحولات في المزاج الشعبي الأميركي، خاصةً داخل الأوساط التقدمية والشبابية، تشير إلى تراجع في التعاطف غير المشروط مع إسرائيل، لا سيّما في ضوء الجرائم والمجازر المرتكبة في غزة، والتي أثارت غضباً واسعاً حتى داخل دوائر الحكم الأميركية.
خلاصة القول، إنّ إسرائيل، بالرغم من تفوّقها العسكري والتقني، لا تزال محكومة بقيود بنيوية واستراتيجية تجعل من مشروع الهيمنة الإقليمية طموحاً يصطدم بوقائع الجغرافيا السياسية المعقّدة. فالتغيّرات الإقليمية، وتصاعد قوة الفاعلين "اللا دولتيين"، وتراجع الجبهة الداخلية، جميعها عوامل تُنذر بأنّ مستقبل إسرائيل سيكون أقرب إلى "إدارة الأزمات" لا إلى "فرض الهيمنة"، وهي إدارة لا تخلو من المخاطر والانكشاف. وبالنظر إلى هذه المعطيات، فإنّ إسرائيل تجد نفسها أمام مفترق حاسم، فإما الاستمرار في سياسة "إدارة الأزمات" التي قد تؤدي إلى استنزاف مواردها وتعميق هشاشتها، أو تبني استراتيجيات احتواء مرنة تركّز على ضبط الصراعات وإدارة التوترات دون الطموح إلى السيطرة الكاملة. وكلا الخيارين يحملان تحديات ومخاطر، فالأول قد يقود إلى استنزاف طويل الأمد وفقدان المبادرة، أمّا الثاني فقد يتطلب تنازلات استراتيجية وتعديلات في السياسات الأمنية والسياسية قد تثير اعتراضات داخلية. وفي كل الأحوال، تبدو قدرة إسرائيل على إعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها محدودة في ظل هذه البيئة الإقليمية المتغيرة والمعقدة.