: آخر تحديث

طبول الحرب على الكرد: قرابين بريئة على مذبح سلام موهوم!

4
4
3

بمثابة رسالة إلى قيادتي قسد والاتحاد الديمقراطي

لا بد من الاستدراك!

لا يعني تعالي أصوات الطبول دائمًا الفرح، ولا تدعو أصداء المزامير إلى رقصة مبتغاة، دائماً. إذ حين يُعاد توزيع النغمات في دهاليز السياسة، يصبح لمثل هذه الإيقاعات شأن آخر مضاد، ومختلف، وتغدو الخطى تواطؤًا بين مسرح التأزم أو التأزيم وساحة الدم. وها جميعاً قد تابعنا كيف أنه منذ اللقاء الأول الذي تم بإشراف المبعوث الأميركي توماس باراك، بدا واضحًا أن الرجل لا يحمل من الوساطة التي انتظرها كثيرون وتفاءلوا بها إلا مجرد وجهها الإنذاري، وأنه أقرب إلى لسان حال أنقرة، بل المجسد لها، وهو في دور إحدى أدواتها المتقدّمة لتدوير زوايا الصراع لا حله. حيث منح اللقاء ذاته باراك تفويضًا ضمنيًا لتسويق جداول أعمال تتخطى الدور التقليدي للدبلوماسية، متكئًا على دعم خفي من دول كقطر، وحلفاء آخرين بات النظام السوري الجديد يجنح إليهم أكثر فأكثر، بل يتجنح بهم، بما يهدد بجناية كبرى، لإعادة تدوير ذاته ضمن هندسة إقليمية لا تني تبحث عن وكلاء للطغيان.

إذ لم يعد خافيًا أن ذلك النظام، بعد أن رمم أطلال صورته بجصّ "العودة التدريجية" كي يلج مشهد العلاقات الإقليمية، صار يترجم شراكات الخارج من خلال الداخل، عبر إطلاق يد فصائله في استهداف المكونات السورية، واعتبار الأقليات التاريخية - السريان، الكرد، العلويون، الدروز - بمثابة فائض لا يلزم في النسخة الجديدة من "الدولة"، كما يشتغل مقتدرون من بينهم على هذا المخطط. ومن هنا نرى كيف جمعت غرف التخطيط كل الموتورين، من مؤثري "التيك توك" إلى أصحاب "البثوث المباشرة" و"التغريدات الانفعالية"، لا سيما تلك التي تصدر من قبل جهلة لا يصلحون إلا كقطاع طرق وبلطجية ومافيات، وتم تلميعهم كممثلي "رأي عام" موال، ثم أُعطي لهم الضوء الأخضر من قبل مشغّلين خارجيين أرادوا استعادة أدوات النظام القديمة، بعد تغيير ألوان جلودها، لا بنيتها العميقة.

أجل، لم أفاجأ. لا لأنني خبير سياسي، بل لأن الرائحة كانت نفاذة منذ البدء. ومن يملك حسًّا بشريًا سويًّا، لا يحتاج إلى كثير من الأدوات لتحسّس الخطر. إذ إن صعود المد الشوفيني بعد الحرب، وتقاطع الطائفية الممنهجة مع مصالح إقليمية تتقاطع وتتقابل بالرغم من تناقضاتها الشكلية، إنما يشير إلى تحالف غير معلن بين الخرائط المتنازعة على جلد المنطقة. حيث بات واضحًا أن ما يُراد ليس أمنًا ولا حلولًا، بل فرض صفقات "الاستسلام الإقليمي"، وترسيخ نظام إقليمي جديد عنوانه: مركز يفاوض وطرف يوقّع، مقابل بقاء الكرسي. الكرسي، لا غيره، أولاً وأخيراً!

تأسيسًا على ذلك، لم يكن الموقف الكردي موحدًا أو واضح المعالم كما يُراد له. إذ أن الرأي العام الكردي ظل حالمًا، في حالة خدر وانتشاء افتراضيين، مؤمنًا بعفوية الإنصاف الدولي، في حين أن أدوات الواقع كانت ترسم خريطة مختلفة. فالقيادة السياسية لقسد - بالرغم من تضحيات مقاتليها ومقاتلاتها الباسلة وبسالة موقف قيادتها - أخفقت في إقناع القواعد المجتمعية حتى الآن، وبدت في كثير من الأحيان منفصلة عن نبض الداخل، بسبب غطائها. تمثيلها الخارجي المفروض عليها، ألا هو تسلط واستبداد: "ب ك ك". إذ إن السياسات التي تبنتها، وإن كانت بروح سورية صافية يشهد لها تاريخيًّا، إلا أن المبالغة في إدارة مناطق لا شأن لها بها أضعفت الموقف الكردي، بل شوهته لدى الشركاء المحتملين، وجعلت خصومه من ذوي النزعة العنصرية يستغلون تلك النقاط لتجييش الرأي العام ضده، عبر التضليل أو المبالغة، أو حتى استحضار داعش والنصرة كضحية والارتزاق كملائكة.

إذ إن غياب المعالجة الجادة للملف الخدمي والمعيشي، واعتماد سياسة "الردع"، من قبل الجهات المتحكمة داخل الإدارة، عمّق شعورًا بالاحتقان، ليس بين العرب والكرد وحسب، بل في قلب المجتمع الكردي ذاته الذي كان أول المستهدفين. أول ضحايا تدخل ب ك ك، بالرغم من عظمة رموز له قاتلوا في مواجهة داعش وفصائل الارتزاق، أنحني - كشخص - لهم ولكل هؤلاء الشهداء.. وهنا تتبدى واحدة من أكبر المفارقات: إذ يظن المرء أن ما تفعله قسد نابع من حسابات سياسية دقيقة، لكن في الحقيقة، أول ما هو مطلوب اليوم منها كشرطٍ لأي بقاء هو: قطع أي تبعية لحزب العمال الكردستاني. لأن سياسات هذا الحزب، كما أثبتت الوقائع، كانت في جوهرها أداة تدمير للملف الكردي لا في سوريا وحدها، بل في الإقليم كله، من جنوب كردستان إلى شمالها، بل حتى في تركيا، وهذا ما يحتاج مجرد قراءة بسيطة لما يتم لاتخاذ مثل هذا الموقف الأكثر ضرورة.

إنني إذ أقول هذا، لا أنطلق من موقع محلل، بل من رؤية شخصية ناتجة عن مراقبة متواضعة طويلة المدى لما يجري، ومن أدوات ذاتية أملكها كمثقف، كما أزعم، ككردي يؤمن بحقوق شعبه، ورأيتني دائماً مع من هم في الخطوط الأمامية من المدافعين عن شعبهم، كما عن كل مواطني بلدي، وسأظل كذلك. إذ لا يمكن - لا منطقيًّا ولا أخلاقيًّا - أن تُختزل القضية الكردية في سوريا بمصير سياسي أو قائد معتقل في سجون "إمرالي"، مهما بلغت رمزيته الحقيقية التي لا تُنكر البتة، فك الله أسره، وقد قدم الرجل كل وسائل حريته منذ لحظة اعتقاله وإلى الآن: مدة زمنية نافت عما هو قانوني ناهيك عما يستلزم من تكتيكات أو مواقف أو عهود عمل عليها بصدق يسجل له، بعيداً عن قيمة ذلك، في مواجهة عقل محتل ومختل دموي. لأن تحكيم سياسات حزب العمال على حاضر ومستقبل كرد سوريا هو في حقيقته تجيير لدماء شبابنا من أجل الفوز في انتخابات تركيا، أو لإنقاذ حياة الزعيم في صفقات لا نعرف لها ملامح. وهكذا وجدنا أنفسنا قرابين في معارك لا نعرف خرائطها، نفنى ونزول هنا ليترجم كل ذلك عبر صوغ خطاب هناك.

مؤكد أن الهيمنة التي فرضها حزب العمال، دعا إلى نسيان أن الكرد في سوريا هم أبناء هذه الأرض منذ فجرها، وليسوا امتدادًا لمركز قرار خارجي. ومن هنا فإنه لا يمكن الحديث عن حل جذري ما لم تتم إعادة تعريف موقع كرد سوريا في المعادلة، استقلالًا عن أي وصاية أو تبعية.

أجل، باراك لا يتحرك من تلقاء نفسه. قد تكون له نزعاته الفردية، لكن ما يقوله ويفعله يعكس حقيقة ومكنونات سياسات إدارة ترامب التي لم تغادر أروقة البيت الأبيض، حتى مع تبدل الوجوه. إذ إن باراك هو انعكاس لصوت أميركي يزن الإنسانية والحقوق والقيم والأخلاق وفق المال والرشوة، لا وفق العدالة ولا المبادئ. وهنا يكمن لبّ المأساة: كيف يمكن الوثوق بإدارةٍ لم تنقذ حتى من يعدون من شركائها حين احتاجوها، ولم تفِ بوعودها، حتى مع أولئك الذين قاتلوا إلى جانبها؟

من هنا نذكّر. فحين انتفضت كردستان العراق في 1991، وبدأت موجات الهجرة المليونية تهزّ الجبال، كان في إمكان واشنطن أن تمنع صدام حسين من المضيّ في جريمته، لكنها آثرت أن تُمهله، حتى إذا بلغ طغيانه مداه، رفعت يدها، لترسم لاحقًا "خط الحماية" شمالًا، وكأنها تُجري جراحة بلا تخدير. فنهض الإقليم لاحقًا، وصار من بين أكثر المناطق استقرارًا وتطورًا، ببنية تحتية متقدمة، وواقع عمراني وخدمي متماسك. إلا أن المخطط الإقليمي الآن يسعى إلى تخريبه، وحزب العمال - وفق ملفات معروفة - واحد من أدوات هذا التخريب، عن علم أو عن جهل.

من هنا نعيد التأكيد أن كرد سوريا ليسوا هوامش، بل هم أس وجوهر ومحور مكانهم وجغرافيتهم المجزوء والمكتملة ووفق أية خريطة وطنية أو قومية. وأن دعمهم واجب لا يتناقض مع نقد الحزب الذي اختطف حلمهم. فنحن نقف إلى جانب أهلنا في روج آفا، من دون أن نكون أسرى لتاريخ حزب باتت سياساته تستثمر في دمارنا وإبادتنا، وتبني عليه أوهام الانتصار في أنقرة.

إذ إن أميركا، مهما بنت ألف "كردستان"، فإنه لا يمكن الوثوق بها، ما لم يتغيّر جوهر تعاملها مع القضايا العادلة. لأن من يبيع سواه في المرة الأولى، سيبيعه مجددًا، حتى وإن غلّف الصفقة بكلمات منمقة أو مسوغات حمقاء كما فعل ترامب عند احتلال: كركوك - عفرين -  وغيرهما من المواقف الصبيانية. ولذلك فإن يقظة المكونات - العرب والكرد والآشوريين وسواهم - شرطٌ لكل حماية. إذ إن ما يُطبخ للمنطقة لا يحمل روح الإنصاف، بل رائحة صفقاتٍ كبرى، يُراد فيها لكل طرف أن يسلم مفاتيحه لمن يزعم أنه "راعٍ أمين".

ولعل ما يُحاك الآن، بتواطؤ تركيا وقطر وأميركا وربما حتى إسرائيل في ضوء استقراء الجاري أو تجليات المشهد، لا يمكن فصله عن تصريحات السيد عبد الله أوجلان التي صدرت في 27 شباط (فبراير) الماضي 2025، وعززتها توكيداته في فيديو ظهوره الأول في التاسع من شهر تموز (يوليو) الجاري...

ولعل ما يُحاك الآن، بتواطؤ تركيا وقطر وأميركا وربما حتى إسرائيل في ضوء استقراء الجاري أو تجليات المشهد، لا يمكن فصله عن تصريحات السيد عبد الله أوجلان التي صدرت في 27 شباط (فبراير) 2025، وعززتها توكيداته في فيديو ظهوره الأول في التاسع من شهر يوليو (تموز) الجاري 2025 وتبناها لاحقًا مؤتمر حزبه في الفترة ما بين 5 و7 أيار (مايو) 2025 والذي أعلن عنه في التاسع من الشهر نفسه أي بعد مجرد يومين فحسب، حيث أبدى فيها استعدادًا لتقديم كل شيء في سبيل ما يسمى "الحل السياسي". وكأن دماء الآلاف التي سالت كانت مجرد فصل تمهيدي لتلك "المرونة المفرطة". فهل يعقل أن يُدار مصير الملايين بمنطق "نجرّب ونرى"؟. هذا شأن حزب في جزء آخر، وليس من حقهما: أوجلان وحزبه المقامرة بجزء كردستاني وشعب كردستاني لهما خصوصيتهما من أجل مكاسب جزء آخر، كما يلمح أو يصرح بذلك.

أما الدول العربية، فبعضها يعمل في الخفاء لدعم نظام دمشق الجديد، إما لحسابات مذهبية، أو كنوع من المزايدة على إيران، أو بهدف إعادة رسم التحالفات القديمة بثياب جديدة. ومن هنا فإن تغييب مصر، تحديدًا، ليس مجرد إجراء عابر غير ذي شأن. إذ كانت تلعب دورًا موازنًا، وكان يمكن أن تكون حجر توازن في صراع القوى. غير أنَّ محاولة تقزيم هذا الدور، بل ومحاولات تأزيم الداخل المصري، في إطار تحويله إلى قضية في ذاته، ساهم ويساهم في محاولة إسكات ذلك الصوت ذي الخصوصية والتأثير، وترك الساحة لأمراء الدم والاستحواذ والرشا والتنازلات من أجل حصانة - آيات كراسيهم.

تأسيسًا على ذلك، ما يُطبخ في إطار "الشرق أوسطية" الجديدة لا يحمل ملامح الأمان، من خلال تتبع المسار حتى هذه المحطة، وها أنا أرصد ذلك بعيداً عن أي تنجيم أو تحليل أكرر أنهما ليسا من شأني كقارء للوحة في وجوهها المتعددة الظاهرة، لافي كيمياء خفايا الافتراضي في عصر الابتذال والتفاهة السياسيتين. لأن السلام الذي يُدفع به من الخارج، حين يكون متكئًا على طغيان داخلي، لا يمكن أن يولد استقرارًا، بل يتحول إلى فخّ ناعم ينطبق فكاه الشوكيان على من هم مستهدفون. أجل، نحن مع السلام. إنما مع السلام الذي يُؤسس لعدالة داخلية، لا ذاك الذي يعيد إنتاج كرسي على أنقاض بشر.

ما أخشاه، إذن، أن ينجرف كثيرون إلى اللعبة التي تُدار من وراء الستار. ولذلك فإن المطلوب اليوم ليس التسرع، بل بناء وعي مجتمعي لا تُخدعه الصور، ولا يستسلم للعناوين. لأن الخسارة في جولة ما لا تعني نهاية المسار. وما لم تُفرض الفيدرالية، واقعًا وحاجةً وإنصافًا، فإن الكرد سيظلون أسرى معادلات تكتبها غرف الآخرين. ومَن شاء فليفهم، ومَن أبى فليُفاجأ، لكن لا مستقبل من دون هذا الشكل السياسي، مهما تعددت التسميات أو اختلفت الرايات.

إنَّ طبول الحرب تُقرع الآن، لا من أجل حماية أحد، بل لإعادة ترتيب من سيوقع على ما، ومن سيتلقى الصدمة. ولذلك، لا يليق بالمكونات الأصيلة- وهي في أرومتها قوميات وشعوب- أن تنخرط في هذه المهزلة، ولا أن تسمح للتاريخ بأن يُكتَب باسمها من جديد.

- ها أنا أقرع طبلي بدوري من دون أن تكون لي أية مزامير!


يسجل للقائد عبدالله اوجلان أنه دعا إلى وقف إطلاق النار مرتين. الأولى كانت في 17 آذار (مارس) 1993 والثانية كانت بعد أسره وفق مؤامرة دولية معروفة في 15 شباط (فبراير) 1999


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.