يعيش بنيامين نتانياهو، أطول رؤساء وزراء إسرائيل بقاءً في السلطة، لحظة فارقة قد تحدد مصيره السياسي والشخصي. لم يسبق أن اجتمعت عليه كل هذه الضغوط الداخلية والخارجية، ولا أن بدا هامش المناورة أمامه بهذا الضيق. أزمة نتانياهو اليوم ليست مجرد أزمة حكومة، بل أزمة نظام سياسي برمته، يتجلى فيها الصراع بين بقاء الرجل في السلطة أو انهيار منظومة حكمه بالكامل.
لم يكن الدعم الذي قدمه دونالد ترامب لنتانياهو يوماً بلا مقابل. فقد منح ترامب إسرائيل اعترافاً بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأميركية، وبارك ضم الجولان، بل وذهب بعيداً في دعم العمليات ضد إيران بل وتوجيه ضربة عسكرية لمشروعها النووي . اليوم، يطالب ترامب نتانياهو بصفقة مع حماس ووقف دائم لإطلاق النار، ليس حباً في الفلسطينيين، بل رغبة في إنجاز دبلوماسي يعزز حملته الانتخابية المقبلة ويعزز شراكته الاقتصادية مع دول الخليج. نتانياهو يدرك أن خسارة دعم ترامب تعني فقدان ورقة ضغط كبرى على الإدارة الأميركية الحالية، كما أن تجاهل طلباته قد يجعله هدفاً لهجوم إعلامي وشخصي من ترامب نفسه، الذي لا يتردد في التخلي عن أقرب حلفائه إذا تعارض ذلك مع مصالحه.
في المقابل، يواجه نتانياهو تهديداً وجودياً من شركائه في اليمين المتشدد. بتسلئيل سموطريتش وإيتمار بن غفير، اللذان يملكان القدرة على إسقاط الحكومة في أي لحظة، يرفضان أي صفقة مع حماس، ويصران على استمرار الحرب حتى “القضاء التام على المقاومة في غزة”. تهديدهما بالاستقالة ليس مجرد مناورة سياسية، بل هو تهديد حقيقي بإسقاط الحكومة وجر إسرائيل إلى انتخابات مبكرة. تجربة عام 2021 ما زالت ماثلة في الأذهان، حين انهارت حكومة نتانياهو بسبب انشقاقات اليمين، وأُقصي عن السلطة لعام ونصف. اليوم، وهو في أضعف حالاته شعبياً، يدرك أن انتخابات مبكرة قد تعني نهايته السياسية، وربما دخوله السجن إذا أُدين في قضايا الفساد التي تلاحقه.
وكأن ذلك لا يكفي نتانياهو المتخبط هنا وهناك، الأحزاب الدينية (الحريديم) تطالب بقانون إعفاء شامل من الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية. في ظل الحرب، حيث يُستدعى عشرات آلاف جنود الاحتياط، وتتحمل العائلات الإسرائيلية أعباء اقتصادية ونفسية هائلة، يبدو تمرير هذا القانون انتحاراً سياسياً. في عام 2018، أدت أزمة قانون التجنيد إلى إسقاط الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة. اليوم، إذا أذعن نتانياهو للحريديم، سيخسر دعم القاعدة العلمانية والوسطية التي بدأت بالفعل في التمرد، كما ظهر في مظاهرات تل أبيب الأخيرة التي شارك فيها عشرات الآلاف ضد “الامتيازات الدينية” في زمن الحرب.
لم يسبق أن واجهت إسرائيل هذا القدر من العزلة الدولية منذ عقود. صور المجاعة والدمار الشامل في غزة تتصدر عناوين الصحف العالمية، وتتصاعد الدعوات في أوروبا وأميركا لفرض عقوبات على إسرائيل ووقف تصدير السلاح لها. حتى أقرب الحلفاء، مثل بريطانيا وفرنسا، باتوا يطالبون بوقف فوري لإطلاق النار. في مجلس الأمن، لم يعد الفيتو الأميركي مضموناً كما كان في السابق. كل ذلك يضع نتانياهو أمام خيارين أحلاهما مر: إما الانصياع للضغوط الدولية وخسارة حلفائه في الداخل، أو الاستمرار في الحرب والمخاطرة بعزلة دولية خانقة تهدد الاقتصاد الإسرائيلي وأمنه القومي.
الأزمة الاقتصادية تتفاقم: عجز مالي متزايد، بطالة مرتفعة، هروب رؤوس الأموال، وتراجع الاستثمار الأجنبي. الاحتجاجات الاجتماعية تتصاعد، خاصة بين عائلات الجنود والاحتياط، الذين يرون أبناءهم يُضحّون بينما تُمنح امتيازات للحريديم. في استطلاع أخير، أبدى 60% من الإسرائيليين عدم رضاهم عن أداء الحكومة، وارتفعت الأصوات المطالبة باستقالة نتانياهو أو تشكيل حكومة طوارئ وطنية بديلة.
ورغم كل ذلك، لا تزال أمام نتانياهو نافذة ضيقة للنجاة. ثمة فرصة تاريخية لتسوية إقليمية مع السعودية وربما سوريا، إذا تمكن من إنهاء الحرب وفتح مسار سياسي مع الفلسطينيين. السعودية، التي تربط التطبيع مع إسرائيل بحل القضية الفلسطينية، قد تمنح نتانياهو “جائزة كبرى” تعيد له الشعبية وتمنحه شرعية دولية، كما حدث مع اتفاقيات أبراهام في 2020. كذلك، قد ينجح في عقد صفقة مؤقتة مع حماس تتيح له تهدئة الجبهة الجنوبية، واستعادة زمام المبادرة السياسية، ولو مؤقتاً.
نتانياهو اليوم في أعمق أزمة سياسية واجهها في حياته، محاصر بين مطرقة الخارج وسندان الداخل، بين ضغوط ترامب وابتزاز شركائه، بين غضب الشارع وتهديد الاقتصاد، بين عزلة دولية غير مسبوقة وفرصة تسوية تاريخية قد تكون طوق نجاته الأخير. قدرته على المناورة، التي طالما أنقذته في الماضي، تخونه اليوم مع تقلص الخيارات وتزايد المخاطر. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد خروجه من هذه الدوامة، إذا نجح في اقتناص لحظة سياسية استثنائية، أو استغل انقسامات خصومه، أو راهن على تعب الشارع الإسرائيلي من الحرب. فنتانياهو، كما أثبتت التجربة، بارع في البقاء على الحافة، وقد يفاجئ الجميع مرة أخرى… لكن هذه المرة، الحافة أضيق وأخطر من أي وقت مضى.