: آخر تحديث

‏قوة بلا ضجيج: دبلوماسية سعودية تبني التفاهمات وتصنع المعادلات

2
2
2

‏ما يجري اليوم من تحرك سعودي على خط طهران - واشنطن . ليس مبادرة تهدئة ظرفية، بل تحوّل استراتيجي في سياسة المملكة الخارجية، يقوم على نهج استباقي يقود الأحداث بدلاً من التفاعل معها. لم تعد الرياض تكتفي بردود الفعل تجاه ما تفعله إيران أو تقرره واشنطن، بل أصبحت طرفاً فاعلاً في صياغة المشهد الإقليمي. وفي صلب هذا التحول، تقود المملكة جهوداً سياسية وأمنية مكثفة، أبرزها المسار الذي يتولاه سمو الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع، بتكليف مباشر من القيادة العليا، لإعادة بناء قنوات التفاهم بين طهران وواشنطن. وتكتسب هذه التحركات زخماً إضافياً في ظل التوترات العسكرية والنووية المتصاعدة، حيث التقى الأمير خالد بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الجمعة الماضي، في لقاء قرأه المراقبون كمحاولة سعودية لتثبيت مسار حوار استراتيجي متعدد الأطراف. تزامن اللقاء مع اتصال أجراه الأمير مع رئيس الأركان الإيراني اللواء عبد الرحيم موسوي، أحد أبرز القادة المقربين من مكتب المرشد، في خطوة تعكس قدرة المملكة على التواصل مع مراكز القرار في الجانبين، وتعزيز الثقة لدى طرفين على طرفي نقيض. ووفقاً لما نقله موقع “أكسيوس”، فإن المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف يستعد للقاء عباس عراقجي في أوسلو لاستئناف المحادثات النووية، ما يضع الجهود السعودية في قلب الحراك التمهيدي لهذا المسار. كما جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى جدة في 8 يوليو 2025، ولقاؤه بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ووزيري الدفاع والخارجية، لتؤكد أن الرياض باتت تمثل نقطة ارتكاز رئيسية في أي تفاهم أمريكي–إيراني قادم.

‏هذه التحركات لا تعكس مجرد وساطة، بل تندرج ضمن استراتيجية سعودية شاملة تهدف إلى ترسيخ موقع المملكة كضامن للاستقرار الإقليمي، وشريك موثوق في هندسة التفاهمات الكبرى. فالعلاقة بين الرياض وواشنطن، وإن شهدت تغيرات في الشكل، لا تزال تشكّل أحد أعمدة الأمن الإقليمي، وكانت تاريخياً دعامة لتدفق الطاقة، ومكافحة الإرهاب، وحفظ توازن الردع في الخليج. واليوم، لم تعد السعودية تكتفي بهذه الأدوار، بل تتقدّم لتؤثر مباشرة في مواقف وسياسات واشنطن تجاه قضايا المنطقة، بما في ذلك الملف الإيراني.

‏من هنا، فإن المملكة لا تقدم نفسها كوسيط حيادي، بل كـ”شريك أمني مسؤول”، يعمل على ضبط إيقاع التفاهمات بما يراعي مصالح الخليج ويحافظ على تماسك جبهة الردع العربي. وهذا ما يفسر تصعيد وزارة الدفاع إلى واجهة الملفات الحساسة، بدلاً من الاكتفاء بالأدوات الدبلوماسية التقليدية. نجاح السعودية في إدارة خطوط الاتصال مع طهران دون تصادم مع واشنطن يعكس تموضعاً مستقلاً ووازناً، يسمح لها بالتحرك بثقة بين الأضداد، وفرض معادلة جديدة تدفع نحو الاستقرار وتقلّص هامش التصعيد.

‏زيارة الأمير خالد بن سلمان إلى طهران في 17 أبريل، ولقاؤه بالمرشد الأعلى علي خامنئي، ونقله رسالة من الملك سلمان، شكلت ذروة هذا المسار السياسي المتقدم. لم تكن زيارة بروتوكولية بل خطوة استراتيجية ذات رمزية عالية، تُمثل اعترافاً متبادلاً بالنية في تثبيت مسار التقارب عند قمة هرم السلطة. وهي أيضاً تتويج لمسار المصالحة الذي بدأ في أبريل 2023 بوساطة صينية، لكنها أُعيدت صياغته لاحقاً برؤية سعودية خالصة. وقد أتت هذه الزيارة قبل أسابيع من اندلاع حرب الـ12 يوماً في يونيو، لتؤسس لقواعد تفاهم جديدة: حوار مباشر، أمن مشترك، وتأثير متبادل.

‏السعودية، بهذه الخطوة، لم تُهادن إيران، بل وضعت شروطاً واضحة للتهدئة تقوم على الاحترام المتبادل وعدم تقويض أمن الخليج. وقد تُرجم هذا لاحقاً في الموقف السعودي المتضامن مع طهران بعد الاستهداف الإسرائيلي للأراضي الإيرانية، ما عزز مصداقية الرياض لدى صانع القرار الإيراني. وبأداء سياسي دقيق يقوده الأمير خالد بن سلمان بين طهران وواشنطن، تقترب المملكة من أداء “عرّاب التهدئة” الذي لا يكتفي بإطفاء النيران بل يرسم الخرائط ويعيد صياغة الترتيبات. وهو دور جديد يتجاوز تأمين حدود الخليج، ليتحول إلى صناعة تفاهمات إقليمية شاملة.

‏اللافت أن هذه الجهود لم تنطلق من الخارجية فقط، بل جاءت من بوابة الدفاع، في دلالة على فهم سعودي عميق لطبيعة المرحلة، حيث تُدار الملفات الكبرى عبر مفاتيح أمنية وعسكرية لا دبلوماسية فقط. هذه الدبلوماسية السعودية النشطة تكشف عن جيل جديد من القيادة، يجمع بين الميراث السياسي العميق وحيوية أدوات الحاضر، ويقود المملكة بثقة نحو موقع القوة الصامتة التي تُحدث التغيير من دون أن ترفع صوتها. وفي خضم الاصطفافات الدولية المتغيرة، تؤكد السعودية أنها لم تعد مجرد لاعب على هامش التوازنات… بل صانع معادلات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.