حين يفكر الإنسان بصدق في وطنه، يدرك في أعماقه أن كل شيء يبدأ من حيث ولد وترعرع، فلا شيء يعلو على مصالح الوطن ولا على سيادته، من دون هذه القيم، أنت مجرد فرد بلا كرامة ولا انتماء حقيقي.
أحيانًا يقال إن هذه مبالغة، وإن الإنسان يمكنه أن يعيش بلا وطن واضح، بلا مرجعية ثابتة، بالنسبة لي أنا لا أصدق هذا الكلام أبدًا، ربما ينجح البعض في أن يعيش عابرًا، لكن الذين يريدون كرامة حقيقية يعرفون أن السيادة ليست شعارًا يعلّقونه على الجدران، بل مركز حياتهم كلها.
لا أعرف حقًا كيف يستطيع إنسان أن يشعر بكرامة حقيقية إذا كان عاجزًا عن صون سيادة وطنه كيف يهنأ؟ كيف يطمئن وهو يرى مصالح بلاده موضوعة في المزاد العلني، يتداولها الغرباء وكأنها مجرد سلعة رخيصة.
حين تفكر قليلًا ستكتشف أن كل شيء يبدأ من هذه الفكرة البسيطة جدًا… فكرة أن لهذه الأرض قرارًا حرًا، قرارًا لا يليق بأحد أن يمد يده إليه ولا يجوز لأحد أن يساومك عليه مهما كانت الشعارات لامعة أو الأصوات مرتفعة.
وحين أتحدث عن هذا الحق في السيادة والحفاظ على المصلحة الوطنية، فأنا أعني بوضوح أن كل قضية لا تتعلق مباشرة بوطني تظل – مهما عظُم شأنها – قضية ثانوية في ميزان اعتباري، أنظر إليها بقدر ما تمس مصالح بلادي أو تتقاطع مع سيادتها أو تهدد أمنها، ومهما حشد المتاجرون بالشعارات من ادعاءات، ومهما رفع أدعياء الضمير حولها اللافتات القومية والدينية، تظل الحقيقة واضحة، فهناك أمم أخرى أحق بأن تقدم التضحيات لأجل قضاياها. أما أنا، فلا يليق بي أن أضع حقوق وطني ومصالحه في كفة ثانية ثم أزعم أنني صاحب ضمير أكبر من الجميع.
أحيانًا يقال إن الدفاع عن مصالح بلدك نوع من الأنانية ولا تظن للحظة أنني أبالغ حين أقول إن هذه أسخف تهمة سمعتها ما الذي يبقى للإنسان حين يفرط في سيادة وطنه؟ ماذا سيقدّم؟ لا شيء. أكرر… لا شيء يستحق الثمن.
قد يقول لك أحدهم معاتبا إن التعاطف فضيلة، وإن الاهتمام بقضايا الآخرين واجب، نعم، لا أحد ينكر أن التعاطف خلق نبيل، وأن الضمير الإنساني لا يطيق اللامبالاة، لكن شيئًا واحدًا يفرق بين التعاطف الواعي والانقياد الأعشى، وهو ألا تفرط في مصلحة وطنك ولا في قراره السيادي.
لأنك إن فرطت فيهما مرة، ستكتشف بعد زمن أنك خسرت نفسك أيضًا، ولن يبقى لك مكان واضح، ولن تعرف إلى أين تنتمي، وستصير واحدًا من هؤلاء الذين يتنقلون بين الشعارات دون أن يثبتوا على معنى واحد.
لا تنخدع حين يستعمل هؤلاء المرجفون لغة التعاطف أو يستحضرون في كلامهم انتماءك العرقي أو الديني، إنهم يفعلون ذلك عمدًا، كي يضمنوا أنك ستقف في صفهم وتظهر تأييدك لهم، وكأنك مدين لهم بولاء لم تطلبه يومًا، والحقيقة أنك لست ملزمًا بشيء لم يلزمك به ضميرك، ولا مضطرًا لحمل مسؤولية لم يخبرك أحد في لحظة صدق أنك مكلف بها. لا تجعل كلماتهم المشحونة تخرجك من مصالحك الوطنية الأساسية، أو تدفعك لتتخلى عن أولوياتك بدعوى أنك تشاركهم عرقًا أو دينًا. فهؤلاء لا يملكون عليك حقًا، ولا يملكون لوطنك حقًا، مهما بالغوا في التظاهر بالعواطف.
راقب كيف يصعدون على أكتاف القضايا الكبرى، ثم يختفون عندما يحين وقت التضحية الحقيقية، فهم لا يبالون إن مات أطفالك من الجوع أو الرصاص، والتاريخ لايرحم.
كل ما تراه الان من استقرار ومن قدرة على بناء المستقبل يبدأ من فكرة بسيطة، أن مصالح الوطن هي الأولوية التي لا يعلو فوقها شعار مستورد ولا عاطفة لحظية.
إن الذين يستخفون بهذه الفكرة هم أنفسهم الذين يطلبون منك أن تضع رأسك تحت أقدام الآخرين وأن تسمي ذلك "وعيًا"، أنا لا أسميه وعيًا، أسميه تضييعًا لكل ما يجعلك صاحب مكانة ومبدأ.
حين يأتيك الخيار بين مصلحة بلدك وإرضاء الخطابات المستهلكة، اختر بلا تردّد، فمن لا يحسم أمره سيحسمه الآخرون عنه، غالبًا بطريقة لا ترضيه.
تذكر بأن السيادة ليست ترفًا، بل شرط وجودك المحترم، ابقَ ثابتًا، لا تتزعزع، لا تجعل أحدًا يقنعك أن أولويات وطنك قابلة للتقسيط أو التأجيل.
قلها لهم بكل وضوح، سيادة وطني فوق كل شيء، ومن لا يفهم ذلك، فلينظر في عيون من فقدوا كل شيء ليعرف قيمة ما لدينا.