في زمن باتت فيه المهن تُقاس بالعوائد، والجهد يُكافأ بالأرقام، يبقى الطبّ مهنةً لا يصحّ أن تُختزل في الوصفة والسعر والفاتورة. فالطبّ، في جوهره الأول، لم يُخلق لرفاه السوق ولا لتضخّم الأرصدة، بل وُلد من رحم الألم، وارتوى من دموع الأمهات، ونما على يدي من وضعوا أياديهم على أرواح الناس قبل أجسادهم.
الطبّ هو العلم الوحيد الذي لا تكتمل معادلته بالمعرفة فقط، بل يحتاج قلبًا ينبض بالرحمة، وضميرًا يستيقظ قبل ساعة المناوبة.
في الغربة، حيث يتوزّع الوجع على العيون التي تنظر خلفها كل مساء، يبرز نوع خاص من الأطباء. أولئك الذين لم تغب عن قلوبهم لهجة الأهل، ولا رائحة الخبز العراقي، ولا وجوه الأمهات اللواتي ينتظرن مكالمة أو علاجًا أو كلمة تطمئن.
الطبيب في الغربية يعيش ازدواجًا صعبًا: بين واقع مغترب بارد الروح، وبين وطن مشتعل لا يُغادر دمه. لكنه، رغم المسافات، يُمارس إنسانيته بلهجة الوطن، ويستقبل أبناء جلدته لا كمرضى غرباء، بل كأهلٍ جاؤوا إلى باب أخٍ يعرف وجعهم ويتقنه.
ومن بين أولئك الذين لا تزال إنسانيتهم تسبق ألقابهم، يبرز اسم الطبيب العراقي د. مكرم الواعظ، المقيم في الإمارات، لا بما يحمله من مهارة طبية رفيعة فقط، بل بما يتكئ عليه من جذور ضاربة في عمق بغداد.
ينحدر من عائلة عريقة، والده الطبيب الشهير د. مكي الواعظ، وجدّه مفتي العراق، فكان ميراثه مزيجًا من العلم والفتوى، ومن النبل والمروءة.
لم يكن حالة فردية في الغربة، بل تجسيدًا حيًّا لذاك البغدادي الأصيل، الذي يفتح بابه قبل أن يُطرَق، ويعرف الناس بأسمائهم لا بأرقام ملفاتهم، ويهبّ في منتصف الليل إذا بلغه أنين من بعيد. هو طبيب، لكنه أيضًا حكاية وفاء لمدينة، ولأخلاقٍ تَعرف أن العِلم بلا رحمة... ناقص، وأن الوطنية تبدأ من وجع الناس، لا من شعارات الخطب.
وهو لا يكلّ من السؤال، ولا يتعب من تقديم المشورة، ولا يضع "ساعة الإغلاق" على أبواب قلبه.
يعالج من يسأله، يستمع بإنصات، ويُعين المحتاج كما لو كان يعين أخاه أو والده.
إنَّه قصة طبيب… لكنّه أيضًا قصة رجل يحمل خصال الرجولة العراقية في أبهى صورها. روح وطن تمشي على قدمين، وحكاية شهامة لم تَغترب معه… بل رافقته حيثما حلّ.
في زمن يتعب فيه الناس من الناس، يطلّ علينا أمثاله ليعيدوا التوازن، ويذكّرونا أن الإنسانية ليست شعارًا، بل سلوكٌ يومي، يقطعه الطبيب الصادق مع كل نبضة يسمعها، وكل دعاء يناله من فمِ مريض ارتاح قلبه بكلمة.
فقط عندما تقول: "د. مكرم"، يصيح الجميع بصوتٍ واحد، مغموس بشهقة فخر:
"هو الطبيب الراقي، ابن الأصول، صاحب القلب الكبير". وفي الجهة الأخرى، هناك أسماءٌ ما إن تُذكر، حتى يعلو صوت المغتربين بحسرة: "مع الأسف… عراقي". شتّان بين من رفع اسم وطنه بالإنسانية، ومن خذله بالأنانية. نكتب عنه لأننا نسمع صوت الناس وهي تدعو له في غيابه، ولأننا أصحاب رسالة… لا نمرّ على النبلاء مرور الكرام.
فليُكتب اسمه لا بالحبر، بل بأثره في القلوب، لا على لوحات العيادات، بل في ضمير كل مريض لم يُخذل، وفي ذاكرة وطن يبحث عمّن تبقّى من أبنائه النبلاء. لا يكتب وصفة فقط، بل يزرع في المريض شعورًا بأن الخير ما زال ممكنًا، وأن الوطن لم يمت بعد. هو ليس مجرد طبيب… بل سطر مضيء في رواية وطن، ومن تبقّى من جيلٍ يُداوي بالعلم، ويُضمّد بالخلق، ويضع قلبه قبل السماعة.