مثلما يتطور العلم لخدمة الإنسان، تتطور وتتنوع أساليب الدول بما يخدم مصالحها الشخصية، وفي ظل التطور العلمي الذي يعيشه العالم في الوقت الحالي، حيث تتراكم المعرفة، تتسارع الدول للحصول على أحدث التقنيات التكنولوجية، وتسابق الزمن لحجز مقعد في طاولة القوى العظمى، أو أقل من ذلك في أن تكون دولة متقدمة.
قد يعتقد المرء أن كل ذلك يقتصر على ضرورة أو حتمية انخراط الدول في كل ما يتعلق بأمنها القومي، الذي أساسه كما هو متعارف عليه في أدبيات الواقعية السياسية غاية الدول في رغبة البقاء، بل إن الأمر يتخطى ذلك عندما تُبدل السياسة العقلانية التي تعتبر التنمية الشاملة وسيلة لسمو الدول وحفظ الأمن والاستقرار وتحقيق رفاهية المواطن، أو كما يقول ابن خلدون في مقدمته تعريفاً للسياسة: "السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة"، إلى نوع آخر من السياسات مآلها الفشل الأخلاقي والسياسي، تحكمها القوة والأهواء الشخصية والرغبة في الهيمنة الزائفة، وغير ذلك عوامل كثيرة بظهورها نشأت دول وبسببها أفلَت، تتحكم بعقول صنّاع القرار كالعوامل الأيديولوجية، أساطير التفوق العرقي والشعب المختار، المجال الحيوي وضرورة التوسع واقتطاع الأراضي على حساب الآخرين، العودة إلى أرض الميعاد، وأساطير أخرى.
ومع تقدم التاريخ، قد يكون تضاءل تأثير تلك الأساطير، إلا أنه لا يزال بعضها يهيمن على عقول صنّاع القرار في بعض الدول، خصوصاً في إسرائيل، التي منذ قيامها وحتى هذه اللحظة وهي في جميع محطات الصراع العربي الإسرائيلي، وحربها الأخيرة في إيران تتذرّع بحجج مستهلكة ليس لها أي معنى، ربطتها دائماً بالتهديد الوجودي، أما في فلسطين، فكل وقف للحروب ومحاولات السلام ما هي إلا إعادة لصياغة استراتيجيات الإبادة والاستيطان الإسرائيلية، وكأنها ترى في ذلك مشروعية لها للدفاع عن نفسها، وبتوافق تام مع القانون الدولي. ولكن، هل في وقف حرب غزة الحالية بصيص أمل؟
تتفاقم الصراعات والنزاعات بين الدول، وفي وقت ما يصبح حلّها أمراً ليس باليسير، ليس فقط بسبب شدة الصراع وما يتعلق بذلك، بل قد يكون المسبّب الأول هو التغاضي وتجاهل الجذور الأساسية للصراع، وغلب الحال على مدى عقود في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أن الدول المؤيدة لإسرائيل، وأولها الولايات المتحدة، تغض الطرف عن المعضلة الرئيسية للقضية وهي حل الدولتين، ولا شك أن إسرائيل تعي ذلك أيضاً، وأن استمرار حالة التجاهل لهذه المعضلة وعدم اللجوء إلى حلول ترضي جميع الأطراف، لا يخدم تلك المساعي الرامية للسلام، وستكون مسألة وقف الحرب ليست إلا أمراً تكرر فعله ويعني تحضيراً لما هو أسوأ.
"القوة المهيمنة إقليمياً تكون قوية جداً مقارنة بجيرانها إلى درجة أنها لا تواجه أي تهديد أمني كبير منهم، ولا تقلق من ظهور خصم حقيقي في المستقبل القريب". بقلم أستاذ العلاقات الدولية ستيفن م. والت في مقالة نُشرت له مؤخراً في المجلة الأميركية فورين بوليسي بعنوان "إسرائيل لا يمكن أن تكون مهيمنة"، حيث يناقش فيها المتطلبات الأساسية أو سمات الهيمنة الإقليمية على غرار ما حققته الولايات المتحدة، وأن إسرائيل تواجه عدداً من التحديات الذاتية والإقليمية التي لا تسمح لها بأن تصبح مهيمنة إقليمياً، ويضيف: "القوة المهيمنة الإقليمية الحقيقية لا تحتاج إلى الاعتماد على أطراف أخرى لفرض سيطرتها في محيطها، لكن إسرائيل تعتمد ذلك"، في إشارة أخرى أيضاً إلى أن استمرار الاعتماد على الدعم الأميركي العسكري لا يجعل من إسرائيل دولة مهيمنة إقليمياً.
وإنَّ مسألة الهيمنة الإقليمية ليست بشيء يسهل إدراكه، وأي دولة تسعى لذلك، يتعين عليها تحقيق إحدى أوضح وأهم المتطلبات للهيمنة الإقليمية وهي الاعتماد الذاتي بكل ما يتعلق بالقدرات العسكرية للدولة، وتهيئة المناخ المناسب لهيمنة حقيقية، وهذه الحالة نقيض ما نراه في الدعم اللانهائي من الولايات المتحدة لإسرائيل، فكيف لها أن تهيمن؟
ختاماً، إنَّ الوعي الزائف الذي تعيشه إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة يعكس حالة الخوف الدائم من كل ما يحيط حولها. ولا شك أن حالة التوجس والعداء الدائم لا تعود بخير على الدول، حتى وإن كبرت صناعاتها، وعظم جيشها. وإن لم تفلح الجهود الدولية المرتقبة لحل القضية، وعدم ترجيح تقبل الإدارة الأميركية الحالية لحل الدولتين، لا يتبقى إلا الشأن الداخلي المعني بالموضوع في إسرائيل، فهل من المنطقي بعد عقود من السياسات الموحّدة وتزايد تطرف حكومة اليمين، مع تضاءل فرص حل الدولتين، أن تتشكّل حكومة الحل التاريخي؟ سرد قد يقع خارج إطار المنطق، ولكن التاريخ يحمل على عاتقه حوادث شتى ليس بينها وبين المنطق صلة.