في التاسع عشر من أيار/مايو الماضي، وقّع كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة "شراكة استراتيجية جديدة" لتعزيز العلاقات بين الجانبين، بما فيها اتفاق "الشراكة الأمنية والدفاعية"، الذي قد يتضمن مشاركة بريطانيا في البعثات العسكرية التابعة للاتحاد، إلى جانب استفادة لندن الكاملة من صندوق دفاعي بقيمة 167 مليار دولار اتفقت عواصم الاتحاد على إنشائه سابقاً. وهي شراكة مهمة جداً للجانبين، قد تعيد بريطانيا لاحقاً إلى فضاء بروكسل. لكن التساؤل النفعي/المصلحي، وهو من بديهيات علم السياسة: ماذا يمكن أن يقدم تعميق هذه الشراكة إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ لاسيما بالنظر لتشارك المنطقتين، الأوروبية والعربية/الشرق أوسطية، في العديد من المصالح والهموم والهواجس، وتأثر كل منهما بأحداث الأخرى سلباً أو إيجاباً.
للإجابة على ذلك، لا بد من استحضار الشرر المتطاير عن الحدثين السوري والليبي إلى الدول الأوروبية في قضايا الأمن والهجرة غير الشرعية واللجوء، إلى جانب الآثار الاقتصادية والتجارية السلبية. إضافة إلى ما ألحقه الحدث اليمني الأخير، الذي تم ويتم خلاله استهداف سفن التجارة الدولية من قبل "الحوثيين"، حيث ألحق، وبالتوازي مع دول المنطقة، أكبر الضرر بالدول الأوروبية. فيما توصلت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً إلى اتفاق مع الحركة الحوثية يقضي بعدم الاعتداء على السفن الأمريكية، مقابل وقف الضربات الأمريكية على البنى التحتية العسكرية للحوثيين، مما يشكل تجاهلاً لمصالح بريطانيا وسائر حلفاء تحالف "حارس الازدهار"، في حالة مشابهة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان دون التنسيق مع حلفائها الأوروبيين.
وقبل الاتفاق الأمريكي-الحوثي، توصلت كل من الصين وروسيا إلى توافق مع الحركة المصنفة على قوائم الإرهاب، يقضي بذات المضمون، وذلك مقابل الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، وحتى العسكري، الذي تتلقاه الحركة الحوثية من بكين وموسكو.
في المقابل، قرر الاتحاد الأوروبي مؤخراً تمديد تفويض عملية الأمن البحري الأوروبية "أسبيدس"، التي تهدف إلى حماية حرية الملاحة في البحر الأحمر والخليج العربي وعلى طول الممرات البحرية الرئيسية في مضيق باب المندب ومضيق هرمز وخليج عدن وخليج عُمان وبحر العرب. وقد تم تأسيسها في شباط/فبراير 2024، وتم تمديد تفويضها حتى نهاية شباط/فبراير 2026، مع تخصيص أكثر من 17 مليون يورو لتمويل العملية، وذلك بعد مراجعة استراتيجية شاملة من قبل بروكسل للعملية. وإلى جانب ذلك، تعتبر الدول الأوروبية البحر الأبيض المتوسط والمنطقة المحيطة به منطقة أوروبية بامتياز، كونها أقوى لاعب اقتصادي وعسكري ودبلوماسي فيها، حسب مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وعليه، فإن زعزعة استقرار هذه المنطقة ستقابل برد أوروبي حازم، باعتبار أوروبا مزوداً لأمن هذه المنطقة.
وعليه، فإن إبداء التفاؤل بالتقارب البريطاني مع دول الاتحاد الأوروبي مشروع، كونه قد يصب في مصالح دولنا الوطنية، وذلك بالنظر للإمكانيات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية للجانبين، الأوروبي والبريطاني، ولتوجهاتهما الأخيرة بتعزيز الاستقلال الاستراتيجي لدول القارة بعيداً عن فلك السياسة الخارجية الأمريكية المتذبذبة، والتي باتت تشهد انقلابات حقيقية بين إدارة وأخرى، دون فروقات تذكر بين إدارة ديمقراطية أو جمهورية. فقد أعلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى من أهمية الدول الخليجية، إلا أنه اتخذ موقفاً سلبياً تجاهها، حين تعرضت منشآت بقيق وخريص السعودية والموانئ الإماراتية لهجمات إرهابية.
كذلك كان موقف الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن مخزياً بحق المجازر المرتكبة بحق المدنيين في غزة والضفة الغربية. بل إنه تجاوز الدستور الأمريكي وزار دولة في حالة حرب، ليعلن تأييده لتل أبيب في ردها على عملية "طوفان الأقصى"، التي نفذتها حركة "حماس" في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وهي العملية التي لم تكن لتتم لولا تجاهل واشنطن التام لمسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وحل الدولتين. فيما بات هذا المسار نقطة توتر في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، نتيجة تأييده ودعمه من قبل الجانب الأوروبي، إلى جانب تعليق بعض الدول الأوروبية لتراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وحتى تعليق مفاوضات اتفاقيات التجارة الحرة مع إسرائيل.
وإلى جانب تذبذب واشنطن وتراجع اهتمامها بأمن حلفائها الأوروبيين والشرق أوسطيين، أو حتى بالمشاركة في معالجة القضايا السياسية والأمنية المزمنة لديهما، تقف بكين موقف المتفرج تجاه كل النقاط المشتعلة عالمياً، مع محاولة قطف الثمار المتدلية من الأزمات والصراعات المتفجرة، ومن كل الأطراف، متذرعة بالحيادية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمسؤولية الجماعية لمعالجة التحديات عبر التعاون الدولي، وهو ما يكذبه الواقع غالباً.
في المقابل، تظهر دول القارة الأوروبية اهتماماً متزايداً بمواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية الخاصة بأوروبا، وبمعزل عن المسار الأمريكي. ومثاله الأوضح "تحالف الراغبين"، الذي تم الإعلان عنه في قمة لندن في آذار/مارس الماضي، بهدف ردع العدوان الروسي على أوكرانيا، مع مناقشة آليات بناء السلام في الأخيرة. هذا إلى جانب استمرار الدعم المالي والعسكري والسياسي والدبلوماسي لكييف. ليس هذا فحسب، فالدول الأوروبية تعمل على توسيع جهودها ومشاركاتها في حفظ الأمن الدولي في جوارها الشرق أوسطي، وفي المحيطين الهندي والهادئ، عبر جهود مشتركة أو مستقلة. حيث تؤكد المملكة المتحدة، بجانب اقتراحها لاستراتيجية "الناتو أولاً"، أن الأمن الأوروبي الأطلسي ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ غير قابلين للتجزئة.
وفي السياق، غني عن البيان الإمكانات الشاملة للدول الأوروبية، والتي بالرغم من تدنيها عن الإمكانات الأمريكية الشاملة، إلا أنها إمكانات وازنة وفعالة على الصعيد الدولي، لاسيما في حال التنسيق والتكامل، وخصوصاً بعد تنشيط ألمانيا لجيشها وتخصيص المليارات لنفقاتها العسكرية. وهو ما يجعل الثلاثي الأوروبي: بريطانيا-فرنسا-ألمانيا، ومن خلفهم دول الاتحاد الأوروبي، قوة/قوى رائدة وموثوقة في مجال الأمن وحفظ السلام الإقليمي والدولي. حيث تحظى دولتان من دول القارة الأوروبية بمقعدين دائمين في مجلس الأمن الدولي، وهما دولتان نوويتان أيضاً. كما تحظى دول القارة باقتصادات رائدة وصاعدة، وبعلاقات وشراكات اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية متينة مع العديد من دول العالم. كما تمتلك هذه الدول العديد من القواعد العسكرية في شتى بقاع العالم، وهو ما تفتقده الصين وروسيا، ويشكل ضرورة ملحة في مجالات الأمن والتجارة وحفظ السلام.
وإلى جانب ذلك، تستمر هذه الدول، مجتمعة أو منفردة، في تسيير قطع من أساطيلها الحربية في الإبحار حول العالم، ضمن مساعيها لإظهار عزمها على الحفاظ على الأمن والسلام العالمي. حيث أطلقت المملكة المتحدة مؤخراً حاملة طائراتها (R09) HMS Prince of Wales في مهمة في المحيطين الهندي والهادئ تستمر لثمانية أشهر، ستجري خلالها سلسلة من التدريبات والعمليات مع القوات الجوية والبحرية والبرية لعشرات الحلفاء في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا واليابان وأستراليا. وكانت لندن قد نشرت أول حاملة طائرات لها (HMS Queen Elizabeth (R08)) في عام 2021، وذلك ضمن الجهود البريطانية لمواجهة داعش في العراق وسوريا. فيما يبدو أن هدف الرحلة الحالية هو مواجهة الحوثيين.
وذلك ضمن الأولوية التي تمنحها لندن للعلاقات التجارية والدبلوماسية والأمنية مع دول الخليج العربي، وفي تركيز إقليمي مكثف تدعمه علاقات سياسية واقتصادية وأمنية طويلة الأمد. حيث يمنح الخليج المملكة المتحدة فرصة للتحقق من صحة علامة "بريطانيا العالمية"، لاسيما وأن لندن كانت مزوداً أمنياً لدول الخليج لقرون عدة، ولم تتراجع عن ذلك إلا عام 1971. وكانت قد انسحبت قبلها من مصر عام 1956، وذلك بعد فشل لندن في تحديث سياساتها لتتناسب مع عصر رفض الهيمنة وسقوط الإمبراطوريات. وهو ما يبدو أن بريطانيا قد استوعبته هي وباقي الدول الأوروبية التي كانت دولاً استعمارية في وقت ما. وعليه، تعمل بريطانيا وسائر الدول الأوروبية على توسيع دائرة نفوذها وبناء شراكات وتحالفات قائمة على المصالح أو المخاوف المشتركة.
على ذلك، أكد رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، مؤخراً التزام بلاده بلعب دور أكبر في منطقة الشرق الأوسط. كما أكد عزم حكومته على زيادة التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين بهدف تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وأن بلاده تسعى إلى توسيع نطاق التعاون الدفاعي مع دول المنطقة، وأن هذا التعاون سيكون جزءاً من استراتيجية أوسع لدعم المصالح المشتركة ومواجهة التهديدات الأمنية التي تواجه الشرق الأوسط والمجتمع الدولي. وذلك وفق رؤية بريطانية قائمة على أن الانخراط الفاعل في الشرق الأوسط يعد ركيزة أساسية لتحقيق الأمان والاستقرار العالمي، ووفق نظرتها إلى الشرق الأوسط كشريك استراتيجي أساسي لتحقيق الأمن والازدهار. لذا، ستعمل لندن على تطوير شراكاتها مع دول المنطقة في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والدفاعية.
وقبل ذلك، أعلن رئيس أركان الجيش البريطاني، الفريق أول سير نك كارتر، خلال اجتماع عسكري في يوليو 2021 تم عقده في بريطانيا بمشاركة رؤساء أركان جيوش تسع دول عربية، عن "استعداد بلاده لمساندة شركائها في الخليج للتصدي للتهديدات المشتركة"، مشيراً إلى وقوف بلاده على أهبة الاستعداد بجانب شركائها في الخليج "للتصدي للتهديدات المشتركة لأمن المنطقة والأمن العالمي". وذلك في إطار إعادة المملكة المتحدة لصياغة علاقاتها المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي ودول الشرق الأوسط، ضمن مسمى "بريطانيا العالمية".
وفي هذا الإطار، ستسعى لندن إلى تقديم عرض أمني أكثر تكاملاً لحماية المصالح، ومعالجة الدوافع الأولية للإرهاب، مع العمل مع الشركاء الإقليميين لتعزيز وتحديث قدراتهم الأمنية لضمان استقرار إقليمي دائم، إلى جانب البناء على شراكاتها الأمنية الوثيقة مع دول المنطقة لحماية مصالحهم بشكل أفضل، مع زيادة التجارة والاستثمار مع الشركاء الخليجيين، والتعاون في مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا الخضراء مع السعودية والإمارات وإسرائيل، بجانب منع إيران من تطوير سلاح نووي، مع التصدي لنشاطها المزعزع للاستقرار الإقليمي، والعمل على إيجاد تسوية سياسية مستدامة للأزمات اليمنية والليبية والسورية.
مما سبق، تبدو الدول الأوروبية، اتحاداً ودولاً، تتجه بجدية لصياغة استراتيجية أوروبية مستقلة عن الفضاء الأمريكي، وتتلاقى في كثير من جوانبها مع مصالح ومخاوف دول الشرق الأوسط. وهو ما يمنح الدول الأخيرة خياراً أكثر موثوقية لناحية مواجهة التحديات الأمنية الإقليمية، ولتحييد الأضرار الناجمة عن التنافس الأمريكي الصيني في المنطقة وخارجها، ذلك كونها ذات تأثير وتداعيات سلبية تطال الجانبين، الأوروبي والشرق أوسطي. كما أن علاقة أكثر عمقاً بين الجانبين، لاسيما مع بريطانيا التي عجّلت بصياغة استراتيجيتها العالمية المستقبلية، تمنح دول المنطقة، والخليجية تحديداً، هامشاً واسعاً في سياستها الأخيرة القائمة على تنويع العلاقات والشراكات.