: آخر تحديث

‏تراجع الاستراتيجية الإيرانية في المضائق: هرمز نموذجًا!

2
3
3

‏لا يمكن فصل مضيق هرمز عن تعقيدات الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط، فهو ليس مجرد ممر مائي، بل شريان استراتيجي تمر عبره ما بين 20 إلى 25% من صادرات النفط العالمية وثلث الغاز الطبيعي المسال، مما يجعله نقطة ارتكاز للاقتصاد العالمي، وورقة ضغط دائمة في يد إيران منذ قيام نظامها الثوري عام 1979.

‏لقد رأت طهران دومًا أن التهديد بإغلاق المضيق يمثل أحد أوراقها الرابحة، خاصة في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، والصدام المستمر مع إسرائيل والغرب. إلا أن الاستراتيجية الإيرانية تجاه المضائق بدأت في التراجع، ليس فقط نتيجة تطورات ميدانية، بل بفعل تبدلات جيوسياسية أضعفت فاعلية هذا السلاح وأخرجته جزئيًا من المعادلة.

‏ترتكز الاستراتيجية الإيرانية للمضائق على عدة أسس، أبرزها الموقع الجغرافي الفريد الذي يتيح لطهران السيطرة على أهم الممرات البحرية في المنطقة، وفي مقدمتها مضيق هرمز الذي يربط الخليج العربي بالمحيط الهندي، فضلًا عن طموحاتها التوسعية في مضيق باب المندب، حيث تسعى لمد نفوذها البحري عبر أدوات غير مباشرة، مثل التمكين للحوثيين في اليمن.

‏لقد شكّل انقلاب الحوثيين عام 2014 على الحكومة اليمنية محطة محورية في المشروع الجيوسياسي الإيراني، لما وفّره من تماس بري مع الحدود السعودية، ومن إطلالة استراتيجية على باب المندب والبحر الأحمر. هذا التمدد الإيراني في المضائق لم يكن مجرد طموح جغرافي، بل اتخذ طابعًا عملياتيًا، كما ظهر في انخراط الحوثيين في ما سُمّي بـ”وحدة الساحات” وحرب “إسناد غزة”، حيث شهد البحر الأحمر اضطرابًا في حركة الملاحة، إلى أن تدخلت البحرية الأمريكية بقوة وأعادت ضبط ميزان القوة. ذلك التدخل لم يسقط فقط نفوذ الحوثيين، بل وجّه ضربة مباشرة لأحد أوجه الاستراتيجية الإيرانية في المضائق.

‏وتدرك طهران أن ميزان القوة العسكري في الخليج لا يميل لصالحها، ولذا تتبنى منذ سنوات مفهوم “القوة غير المتكافئة”، بالاعتماد على أدوات أقل تكلفة وأكثر مرونة: الزوارق السريعة، الألغام البحرية، الصواريخ الساحلية، الطائرات المسيّرة، والغواصات الصغيرة. هذه الأدوات تمكّنها من تهديد الملاحة دون خوض مواجهة كلاسيكية، لكنها في المقابل تفتح الباب أمام ردود نارية غير متكافئة، كالتي يمكن أن تطلقها واشنطن وشركاؤها في حال استخدمت إيران هذه الأدوات بجرعة زائدة.

‏وتعتمد طهران في إدارتها للملف البحري أيضًا على مبدأ “تكامل الجبهات”، حيث يُستخدم المضيق كمسرح ضغط عندما تتعرض جبهات أخرى للضعف أو الاستنزاف. وهذا ما ظهر بوضوح عند اقتراب واشنطن من التصعيد المباشر، حين بادرت أذرع إيران الإقليمية إلى التلويح بإشعال جبهات جديدة، ومنها مضيق باب المندب.

‏تسعى إيران من وراء هذه الاستراتيجية إلى تحقيق جملة من الأهداف: أولها امتلاك قوة ردع إقليمية، لتهديد خصومها ومنعهم من التفكير في ضربات استباقية. ثانيها، استخدام المضائق كورقة ضغط تفاوضي، خصوصًا في الملف النووي، رغم أن التجربة الأخيرة أثبتت أن واشنطن لم تُخضع موقفها لهذه الورقة. ثالثًا، محاولة تعويض الفجوة مع القوى الغربية، لا من خلال التكافؤ العسكري، بل عبر استنزاف الخصم وتشتيته. ورابعًا، الضغط على أسواق الطاقة ورفع أسعار النفط كلما دعت الحاجة، أو تعطيل سلاسل الإمداد لإرباك الأسواق العالمية.

‏غير أن هذه الأهداف، على طموحها، تصطدم بتحديات جسيمة. فالمخاطر العسكرية حاضرة، لا سيما مع انتشار قوات بحرية أمريكية ودولية في الخليج وخليج عمان، ما يجعل أي إغلاق فعلي للمضيق مغامرة باهظة التكاليف. التجربة الأخيرة في باب المندب أظهرت أن واشنطن قادرة على تعطيل مشاريع إيران في وقت قصير، وهذا ما يمكن أن يتكرر في هرمز، خصوصًا مع تنامي الحديث عن تشكيل تحالف بحري دولي مخصص لحمايته.

‏إضافة إلى ذلك، فإن إيران نفسها تعتمد بشكل كبير على المضيق لتصدير نفطها (2.5 مليون برميل يوميًا)، وهي صادرات تمثل نحو 80% من إيراداتها الحكومية، ما يجعل أي تصعيد بحري يرتد عليها اقتصاديًا. فضلًا عن تضرر شركائها الإقليميين كالعراق وقطر، الذين تهدد مصالحهم مباشرة في حال تعطل الممر.

‏أما التحدي الأهم فيكمن في التوازنات الجيوسياسية العالمية. فالصين والهند، وهما من أهم الشركاء التجاريين لإيران، تعتمدان وارداتهما النفطية بشكل كبير على استقرار المضيق. وأي تعطيل له سيلحق ضررًا بالغًا بسلاسل الإمداد والطاقة، ما قد يدفع بكين ونيودلهي لاتخاذ موقف حازم من إيران. وهنا، قد تجد الولايات المتحدة فرصة سانحة لتقديم صادراتها من النفط والغاز كبديل آمن، كما فعلت مع أوروبا بعد أزمة أوكرانيا، وهو تطور يفقد الخليج قيمته الاستراتيجية لدى بعض القوى الدولية، ويعيد رسم خريطة التحالفات على أسس اقتصادية جديدة.

‏ورغم صعوبة إغلاق المضيق فعليًا، بسبب اتساع مجراه الملاحي وتمركزه الجغرافي داخل المياه العُمانية، إلا أن التصريحات الغربية، ولا سيما الأمريكية، توحي بتضخيم هذا السيناريو. فقد نقلت رويترز مؤخرًا عن مسؤولين أمريكيين أن الاستخبارات رصدت قيام إيران بتحميل ألغام على بعض السفن، استعدادًا محتملًا لإغلاق المضيق، وذلك عقب ضربة إسرائيلية موجعة في يونيو الماضي.

‏ويذهب بعض المراقبين إلى أن هذه التسريبات قد تكون جزءًا من استراتيجية إعلامية غربية تهدف إلى تعزيز القلق الأمني، ودفع شركاء الخليج التقليديين إلى التفكير الجاد في بدائل للطاقة، سواء من خلال التحول إلى الطاقة النظيفة، أو عبر تنويع مصادر الاستيراد لتشمل الولايات المتحدة وغيرها من المنتجين المستقرين.

‏في المحصلة، يبدو أن الورقة الإيرانية في المضائق، رغم رمزيتها الجيوسياسية، باتت مقيّدة بالمخاطر أكثر من كونها أداة ضغط حقيقية. ولم تعد تهديدات الإغلاق، سواء في هرمز أو باب المندب، كافية لتغيير موازين القوى أو لفرض إرادة طهران على العالم، في ظل شبكة متزايدة من التحالفات الدولية، وتحولات سريعة في معادلات الطاقة والاقتصاد العالمي.
‏وربما يكون من مصلحة طهران، على المدى البعيد، تحييد هذه الورقة تدريجيًا والرهان على أدوات أكثر مرونة في السياسة الدولية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.