في قلب الصراع العربي-الصهيوني، لم تكن المعركة يومًا محصورة في ميادين المواجهة التقليدية؛ بل تمدد الاحتلال إلى عمق المجتمعات العربية من خلال أخطر أسلحته: الخيانة المنظمة. هنا لا نتحدث عن "جواسيس" كما في الأدبيات الكلاسيكية، بل عن فئة جديدة من العملاء تحوّلت إلى حمير يركبها العدو لرفس مشروع المقاومة من الداخل. والحديث هنا ليس مجازيًا وحسب، بل توصيفًا دقيقًا لظاهرة متزايدة الخطورة، حيث يُستغل هؤلاء لتنفيذ مشاريع صهيونية بواجهات محلية ووطنية.
في غزة: حين يتقن العميل لبس عباءة المقاومة
في القطاع المحاصر، برزت جماعة أطلقت على نفسها اسم "ميليشيات أبو شباب"، سرعان ما تحولت إلى مركز جدل بعد كشف تورطها في أعمال تخدم أجندات الاحتلال. الصحفي عبد الحليم قنديل، في مقاله المعنون "عصابة أبو شباب سليلة الخيانة" (القدس العربي، مايو 2024)، وصف هذه المجموعة بأنها "أداة تخريب داخلي، تم تشكيلها بإشراف مباشر من جهاز الشاباك الإسرائيلي، وبأمر من رئيسه رونين بار" [1].
لم تكن هذه الجماعة من فراغ، بل تم تجنيدها من بين الفئات الأكثر هشاشة: مدمنو المخدرات، المهرّبون، وأصحاب السوابق. وهو أمر يتكرر تاريخيًا في عمليات التجنيد، حيث يُستخدم ملف الجريمة كمدخل لتطويع الأفراد. في غزة، استخدمت هذه الميليشيا القوة والابتزاز وسرقة المساعدات لتكوين ولاءات مزيفة، في وقت كانت فيه المقاومة الحقيقية تقاتل على جبهات متعددة. الأسوأ أنهم، تحت ستار "مقاومة"، وجهوا السلاح إلى أبناء جلدتهم، ونفذوا اغتيالات وتصفية حسابات لصالح العدو.
التجربة الإيرانية: الضربة من الداخل أشد فتكًا
في العمق الإيراني، أثبتت إسرائيل قدرتها على تنفيذ عمليات استخباراتية "جراحية"، لا سيما الضربات التي وقعت في أبريل ومايو 2025، والتي استهدفت منشآت حساسة في طهران وأصفهان، وأودت بحياة علماء نوويين وقيادات في الحرس الثوري.
وفق صحيفة The Guardian، فقد تمت العمليات عبر شبكة عملاء داخلية مزودة بأجهزة توجيه متطورة، نجحت في زرع طائرات دون طيار داخل الأراضي الإيرانية، بل وتمكنت من رصد تحركات حساسة في منشآت سرية [2].
تُظهر هذه العمليات أن إسرائيل لا تعتمد فقط على قدرات تكنولوجية، بل على "حمير داخلية"، أي عملاء محليين يسهّلون لها المهام. هؤلاء يتوزعون على شكل موظفين مخترقين، عناصر أمنية فاسدة، وحتى "خلايا نائمة" يتم تحريكها في اللحظة المناسبة. وهكذا، بدلاً من مجابهة العدو خارج الحدود، تجد الدول نفسها تنزف من الداخل بفعل طعنة في الظهر.
آليات التخريب: من المال إلى الإعلام
تعمل هذه "الحمير الاستراتيجية" عبر أدوات دقيقة، تبدأ بـ التمويل الفاسد، حيث يتم إنشاء شبكات اقتصادية موازية تُمكّن العملاء من الاستغناء عن التمويل الشعبي، وشراء الولاءات السياسية. أما السلاح الثاني، فهو الإعلام المُضلل؛ إذ تتقمص هذه الجماعات خطابًا مقاومًا أو وطنيًا، لإخفاء طبيعتها الوظيفية. كما يتم استخدام ملفات الفساد أو الفضائح الشخصية لإجبار الشخصيات النافذة على التواطؤ.
وتكتمل دائرة التخريب بـ الارتهان الأمني: حيث يتم زرع هذه العناصر في أجهزة رسمية، بهدف اختراق القرارات أو إفشال العمليات أو تسريب المعلومات. والأسوأ من ذلك كله، أن كثيرًا من هذه الجماعات تُمنح شرعية مزيّفة عبر قنوات دعم دولية، بحجة "التعدد السياسي" أو "المصالحة الوطنية".
آثار الخيانة على بنية المقاومة
حين يضرب الخطر من الداخل، فإن تكلفة المقاومة ترتفع بشكل مأساوي. تنشغل القوى الحقيقية في مواجهة صراعات هامشية مصطنعة، وتفقد جزءًا من دعمها الشعبي نتيجة التضليل. وبذلك:
تُستنزف الموارد اللوجستية والبشرية في معارك جانبية.
يُكشف العمق الاستراتيجي أمام العدو في لحظات حرجة.
تُفقد الثقة بين المواطن والمؤسسة، مما يسهل اختراق الوعي العام.
يُشرعن العدوان الإسرائيلي على أنه دفاع عن "عناصر محلية" أو حماية "معتدلين".
لا مقاومة دون تطهير
ليست هذه الظواهر جديدة، فقد عرفنا "جيش لبنان الجنوبي" في الجنوب، و"صحوات العراق" لاحقًا، والعديد من الكيانات التي ارتدت عباءة المقاومة لتخريبها. لكن الخطر اليوم أكبر؛ لأن الاحتلال بات يطوّر هذه الأدوات لتصبح أكثر قربًا وتشبهًا بالشكل الوطني. لذلك، لا بد من استراتيجية ثلاثية الأبعاد:
1. تطهير المؤسسات الأمنية والسياسية من العناصر المخترقة
2. رفع الوعي الشعبي بأساليب الاختراق عبر الإعلام والتعليم
3. خلق حاضنة وطنية مقاومة تُقصي هذه الجماعات لا بالقتل، بل بالفضح والتحصين الواعي
العدو لا يحتاج لأن يدخل بجنوده إذا كانت له "حمير" محلية تمهّد له الطريق. والتاريخ أثبت أن الاحتلال لا ينتصر بالسلاح، بل بانهيار الجبهة الداخلية. ومن هنا، فإن أول شروط الانتصار هي معرفة العدو في الداخل قبل الخارج.