يدور جدل يتحول أحيانًا، وفق السيمفونية اللبنانية، إلى تراشق سياسي إعلامي حاد حول أولوية تسليم سلاح حزب الله أو الشروع بإصلاحات تشرّع أبواب عطايا الإعمار. والواقع أن الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك حسم الجدل بقوله في مقابلة مع نيويورك تايمز إن المطلوب تطبيق سياسة العصا والجزرة، وأن «الولايات المتحدة تسعى إلى الحصول على دعمٍ مالي من السعودية وقطر يركّز على إعادة الإعمار في مناطق الجنوب اللبناني... وإذا حصل المجتمع الشيعيّ في لبنان على شيءٍ من هذا، فسيكون متعاونًا»!
نحن في عصر الإملاءات لا النقاشات، والعملية مخطط لها أن تمضي بجناحي نزع السلاح وإطلاق الإصلاحات، ولا داعي هنا لشحذ همم الشعارات، وهي بالمناسبة لا تخدم سوى قطارات الحملات الانتخابية التي تنطلق على سكك تعطش المجتمعات اللبنانية لهتافات "عاش الزعيم".
ولا أدري لماذا تغيب معطيات وحقائق استراتيجية عن الهم السياسي اللبناني المنشغل في "فوبيا النفوذ الداخلي". هل ثمة تفاهم غير فطري لشد عصب دويلات الطوائف بإعلام، بينما المنطقة والعالم يواجهان تسونامي المتغيرات؟!
ثمة معطيات داخلية وإقليمية عديدة تستدعي تجاوز عقدتي التميز والمظلومية والالتفاف حول الدولة الوطن، ومنها بإيجاز شديد:
-
الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على أبناء الوطن، جنوبيين كانوا أو من أي بقعة لبنانية. على حزب الله أن يعترف بهزيمة المحور، وعلى المجاميع اللبنانية أن تعد لبيئته بيئة العودة السياسية والاجتماعية إلى كنف الوطن.
-
السلاح في المخيمات الفلسطينية يوقظ مشاهد الدم في مخيم نهر البارد. وإلغاء إسرائيل عمليًا ما يُطلق عليه حق العودة يعني أن اللبنانيين، كل اللبنانيين، أمام مشروع توطين. وتتعزز المخاوف هنا مع إعلان حركتي حماس والجهاد الإسلامي أن لفلسطينيي المخيمات حقوقًا مدنية اجتماعية إنسانية قبل المباشرة بجمع السلاح!
-
يغيب عن بعض أقطاب السياسة في لبنان أن تنافسًا شديدًا يدور للظفر بغيث المساعدات الخليجية والدولية لإعادة الإعمار، فالجنوب وضاحية العاصمة ينتظران فرج إعادة بناء ما هدمته سياسة حرب الإسناد، وسوريا الجديدة تنشط دبلوماسيًا لترميم آثار الحكم الأسدي، بينما غزة أيضًا وأيضًا تترقب من ينقذها من تداعيات الطوفان السنواري.
-
يجافي حقائق الجغرافيا السياسية كل من يعتقد أن التحولات السياسية والاجتماعية في سوريا لن تنعكس على الداخل اللبناني، إن لجهة العقد الاجتماعي الجديد الذي يقوم على مبدأ "الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع"، أو لجهة الفصائل "غير السورية" القادمة إلى عاصمة الأمويين على جناح إحياء الدولة الإسلامية. ومن الأهمية هنا التوقف أمام ما اعتبره الموفد الأميركي برّاك لصحيفة نيويورك تايمز من أن "الإدارة الأميركية تسعى إلى انضمام سوريا إلى اتفاقيات أبراهام" وأن ذلك "قد يستغرق وقتًا لأن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع قد يواجه مقاومة داخلية".
-
الموفد الرئاسي الأميركي يتحدث عن "مقاومة" داخلية في سوريا في ظل معلومات عن قلق واشنطن والمجتمع الدولي من آلاف المقاتلين الذين قدموا من الخارج للمشاركة في الحرب ومعظمهم من الجماعات المتطرفة!
إن ترسيم الحدود اللبنانية السورية وضبطها أولوية وطنية، وحل معضلة الوجود السوري في لبنان أيضًا أولوية وطنية لم تحظَ بالجدية التي تتوافق مع حجم القضية حتى الآن.
لبنان يعبر مرحلة التحول الكبير في المنطقة. ثمة ثقة محلية، ودعم إقليمي ودولي لعهد الرئيس جوزف عون، وربما أقل ما يستحقه الأخير للحفاظ على ديمومة الكيان اللبناني هو الخروج من عقدتي "التميز الأبدي" و"المظلومية التاريخية".
القوى السياسية في لبنان مطالبة بتقدير دقة المرحلة وخطورتها، ودعم مرحلة العبور نحو الأمان... ودولة الوطن!