سفر عباس عراقجي وزير الخارجية الإيراني إلى أوسلو سيكون مُخصَّباً باحتمالات حوار دبلوماسي غير مباشر - واقع حال - مع تل أبيب بواسطة واشنطن. أما ستيف ويتكوف المبعوث الأميركي للشرق الأوسط فسيُقلع إلى العاصمة النرويجية برفقة خبر إمكانية منح بلاده قاذفة الـ (B2 Spirit) لإسرائيل، وبالتالي ستصبح حربها مع طهران سياحة في السماء وقنابل على الأرض.
اختيار أوسلو يبدو فألاً دبلوماسياً سيئاً. مثلاً، شبح فشل "اتفاقات أوسلو" عام 1993 على أرض الواقع بين رام الله وتل أبيب ما زال يطوف في الأدبيات الصحفية العربية والعالمية حتى يومنا هذا. النرويج فشلت أصلاً عام 1990 في دخولها الدبلوماسي الأول على خشبة المسرح الدولي كصانعة للسلام في غواتيمالا. كذلك لم يُعرف عن أوسلو ضلوعها في دبلوماسية بين الدول وإنما بين دول وميليشيات أو حركات مقاومة. أيضاً، غالباً ما تذرفُ أوسلو دموعاً إعلامية وهي تردد مزاعم كونها "دولة صغيرة محدودة الموارد"، بالرغم من أن الـ (GDP) السنوي لها وصل تقريباً إلى 485 مليار دولار أميركي في 2024، ويعيش مواطنوها الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين فقط على مساحة 385 ألف كم². هكذا فإنَّ خلطة تاريخ الفشل والدموع يُفترض بها أن تدفع واشنطن وطهران إلى بلدٍ لا يُسبِّبُ التطيُّر في مزاج العالم الذي يعيشُ الآن سرديات ظهور علامات آخر الزمان.
دبلوماسية أوسلو عموماً تُجيد السرية ولا تعشق التسريب الإعلامي وقد يكون ذلك أحد أسباب اختيارها كطاولة لعودة المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران. لكن الدافع الظاهري الأكبر هو عدم استعداد دولة أخرى لإهدار رصيدها السياسي في مغامرةٍ دبلوماسية محفوفة بالمخاطر مع هاتين العاصمتين.
الأكيد أن عُمان وقطر تحضران كلافتة تحذير. الولايات المتحدة خدعت عُمان التي رعت مفاوضاتها النووية مع إيران، وسمحت لتل أبيب بشنِّ الحرب ضد الأخيرة في 13 حزيران (يونيو) الماضي؛ أي قبل يومين من عقد جولة مفاوضات جديدة بينهما. ليس من المعقول أن تسمح مسقط بتبذير المزيد من رأسمالها الدبلوماسي، بالرغم من حرصها مع ذلك وبمشاركة الدوحة على ضمان التواصل بين ويتكوف وعراقجي الذي لم ينقطع حتى أثناء حرب الاثني عشر يوماً بحسب موقع "أكسيوس".
نصيبُ الدوحة كان تعرُّض قاعدة "العديد" الأميركية على أراضيها إلى ضربةٍ صاروخية من إيران كردٍّ على مشاركة الولايات المتحدة لإسرائيل في قصف منشآتها النووية يوم الـ 22 من حزيران (يونيو)، وما عاد ممكناً أن تكون راعياً مباشراً لعودة المحادثات النووية. مسقط والدوحة ليس لديهما سفارة في النرويج. وبالتالي هما قررتا مع سبق الإصرار والترصد ممارسة "التسيير" لهذه المفاوضات، والابتعاد عن دور الوساطة التي قد تُكلِّفُهما خسارة فادحة في أرباحهما الدبلوماسية.
الانتقال من الظاهر إلى مستوى أعمق توفِّرهُ بعض المعطيات، يُرينا فوراً بأن دبلوماسية أوسلو تشتهرُ هي الأخرى بلعب دور "التسيير" حصراً لا الوساطة، وذلك مُناسب جدَّاً لطهران، لأنها من جانب تُريد من الاتحاد الأوروبي أن يكون شاهداً على الجهود التي ستبذلُها لإنجاح المباحثات النووية مع واشنطن. وفي جانبٍ آخر سوف تستفيد من ميزة عدم التسريب الإعلامي التي تشتهرُ بها تقاليد دبلوماسية النرويج، خاصَّةً وإنَّ بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية سيكون موجوداً في واشنطن لمعرفة تفاصيل المفاوضات من ويتكوف عن طريق ترامب.
مكان اللقاء بين ويتكوف وعراقجي في أوسلو سيكون له دلالات. الأرجح أن يكون ذلك في فندق الـ "غراند" المشهور باستضافته للدبلوماسيين و"الحائزين على نوبل"، وهو يقع في وسط العاصمة بالقرب من البرلمان النرويجي. لن يتناقض اختيارُ غراند مع أصول الكتمان لدبلوماسية النرويج فالذنب يقع على واشنطن وطهران اللتين اختارتا صيف أوسلو حيث يستمر النهار فيه 18 ساعة. ومن الطبيعي أن يُحفِّز هذا النهار الطويل المراسلين والقنوات الفضائية على نشاطٍ إضافي. باختصار، العاصمة النرويجية اختيرت بشكلٍ مقصود لتعمل كمطبخٍ دبلوماسي في الهواء الطلق.
عراقجي وويتكوف سيتنافسان في عدد مرات اتصالهما مع مراجعهما في قم وواشنطن. مسقط والدوحة ستكونان على بُعدِ إحدى وخمسين دقيقة من أوسلو في ريسكوف الدنماركية التي تمتلكُ فيها الأولى حضوراً دبلوماسياً، وتمتلكُ الثانية إمكانية الوصول بواسطة سفيرها "فوق العادة وغير المقيم في النرويج" بحسب التوصيف الدبلوماسي. وعليه فإنَّ صالة العمليات السياسية للعاصمتين ستكونان في أتمِّ الاستعداد، لإجراء جراحةٍ دبلوماسية فورية في حالة انسداد أي شريان للمحادثات بين عراقجي وويتكوف.
نصيب الفضل إن نجحت هذه المفاوضات هو من حق مسقط والدوحة بدون منازع. أوسلو ستأخذُ نصيبها لحضورها في المشهد بحكم الضرورة الأوروبية. أما الفشل إذا حصل فسيكون بسبب تل أبيب وطهران وبنسبةٍ غير متساوية. الأرجح حصَّة الأولى فيها هي الأكبر.
الرئيس ترامب سيكون فائزاً في جميع الحالات. إذا نجحت المفاوضات سيرفع الأصبع الوسطى في كلتا يديه أمام الكاميرا ليهدي الاتفاق للديمقراطيين. أما إذا فشلت المفاوضات فلن يُكلِّفهُ ذلك سوى إعطاء الـ (B2 Spirit) لإسرائيل، وهو بذلك سيُحافظ على أهمِّ وعود ولايته الرئاسية؛ أي عدم مشاركة الولايات المتحدة بحروبٍ جديدة في الشرق الأوسط، رافعاً لا محالة نفس الأصبعين للبحث عن المؤخرات الدبلوماسية لتل أبيب وطهران، عندها ستكون النتيجة الأرجح صُراخ الأولى بصوتٍ أعلى من الثانية.