: آخر تحديث

هل تنتظر الرّقة مطارها؟

1
1
1

سؤالٌ يبدو بسيطاً في لفظه، لكنه في حقيقته جرحٌ مفتوح في جسد مدينة استحالت فيها الأبنية إلى ذاكرة، والطرق إلى روافد للحكايات الموجعة.

سؤال يخرج من رحم مدينة تشبه الأب المسن الذي يقف على شرفة الزمن، ينتظر قطاراً تأخر، طائرة لم تهبط، قراراً عالقاً منذ عقدين.

ألم يئن لمحافظة الرّقة، محافظة الظمأ التاريخي، أن تمتد أجنحتها في السماء كما امتدت سواعدها في الأرض؟

الرّقة، ليست اسماً على خارطةٍ تُرسم على عجل، ولا بقعةً تتردد في نشرات الأخبار، بل هي في جوهرها رواية مكتوبة بحبر الأرض وماء الفرات.

مدينة اجتمعت فيها تناقضات الجغرافيا والتاريخ والسياسة، لتكوّن تجربةً إنسانية فريدة، عميقة، تقف عند مفترق كل شيء، لكنها دائماً تُستثنى.

إنه لمن الغرابة بمكان أن تكون محافظة بهذا الحجم الاقتصادي والزراعي، وهذا التاريخ الثقافي والسكاني، بلا مطارٍ مدني!

الرّقة التي كانت وما زالت السدّ، والحقل، والفرات، والخزان البشري الكادح من كل أطراف سوريا، ظلت بلا نافذة نحو السماء.

القرار بإحداث مطار فيها صدر منذ عام 2002، ورُسم موقعه على الخرائط شمال المدينة، ثم تُرك كأنما لم يُكتب.

الورق تآكل، والموقع صار شائعات بين الناس، والحلم بقي عالقاً في ذاكرة جماعية يُعاد تدويره بين الحارات والمقاهي ومكاتب السفر.

وفي ظلّ مشروعات جديدة تُعلن عنها "الجمهورية الثالثة"، وتوزّع مطاراتها المنتظرة على دمشق، حلب، والمنطقة الوسطى، تقف محافظة الرّقة كما وقفت دوماً:

في طابور الانتظار... لا أحد ينادي اسمها.

الرّقة ليست مجرّد حدود إدارية، بل هي صوتٌ في عمق الوطن، صوتٌ غُيّب طويلاً.

تُعدّ من أهم المحافظات اقتصادياً، بفضل المشاريع الزراعية الكبرى وسدودها التي تمدّ البلاد بالكهرباء والغذاء.

هي الخزان الصامت، الذي ظلّ يرسل خيره إلى كل أطراف البلاد، ولم يطلب سوى نافذة صغيرة يرى منها أبناءه العائدين، أو المسافرين منها إليها.

في الرّقة، يمتزج التاريخ بالسياسة، والزراعة بالبشر، والمعمار باللا يقين.

الناس هنا لم يطلبوا المعجزات، بل فقط أن يُنفّذ القرار الذي وُقّع منذ أكثر من عقدين.

لم يطلبوا مطاراً صاخباً يُشبه مدن الخليج، بل مهبطاً بسيطاً يُعيد الاعتبار إلى مدينةٍ يُراد لها أن تبقى في الظل.

لكن من قال إنّ الظل لا يحمل حياة؟

هنا، في هذا الامتداد الشرقي من سوريا، عاش بشرٌ من كل المحافظات.

امتزجت اللهجات، وتنوعت الخبرات، وتعددت الأحلام، فصار لزاماً أن تكون هناك صلة وصل بينهم وبين بقية البلاد، وصلة تُعيد للمركز تواصله مع الأطراف التي طالما دعمت بنيته التحتية، وساهمت في نموه وتمدنه.

الرّقة ليست هامشاً، بل هي لبّ المركز، إن كان المركز يريد أن يكون وطناً لا سلطة.

من دون مطار، تبقى المدينة معزولةً كما لو كانت جزيرة.

رحلات السفر من الرّقة إلى دمشق، أو حلب أو اللاذقية لا تُقاس بالكيلومترات، بل بالزمن النفسي، بالتعب، بالاستنزاف.

الطالب، المريض، الموظف، العائد، اللاجئ، كلهم يسلكون طرقاً وعرةً من أجل "حقٍّ" يُفترض أن يكون بسيطاً، عادياً، واضحاً.

ثمّة مفارقة كبرى هنا:

الرّقة المحافظة الوحيدة في سوريا التي لم يُنشأ فيها مطار مدني، بالرغم من صدور قرار رسمي بذلك منذ عام 2002.

كأن هناك من استكثر عليها هذه النافذة الصغيرة على العالم!

كأن الرّقة، بخصوبتها وجغرافيتها ودمها الذي لم يجف بعد، لا تستحق ما تستحقه المدن الأخرى من بنى تحتية، ومن صلة مع العاصمة.

هل كانت الحرب عذراً؟

ربما.

لكن الحرب نفسها كانت أكبر دليل على أهمية الربط بين المدن، على ضرورة أن تكون هناك بنى مدنية يمكن عبرها تأمين الناس، نقل المرضى، فتح الأبواب للناجين.

الرّقة، تلك التي رقصت على حافة الخراب، وعاشت تحت كل أشكال القهر ـ من الدولة، من "داعش"، من النسيان ـ تستحق الآن مطاراً لا أكثر.

ليس تكريماً، بل استحقاقاً.

ليس مجاملة، بل ضرورة.

وليس منّة من أحد، بل تنفيذ لقرار دولة مضى عليه زمن طويل.

نحن لا نطالب بإحداث جديد، بل فقط بتنفيذ ما اتُفق عليه، وبما لا يتعارض مع الوضع السياسي الحالي، ولا مع التفاهمات مع "قسد" بموجب اتفاق 10 آذار 2025.

القيادة الجديدة تملك اليوم فرصةً تاريخية لتصحيح الخطأ، لإعادة الرّقة إلى الخريطة، لا كاسمٍ فقط، بل كجسر عبور، كامتداد حضاري، كحضور فاعل في مستقبل البلاد.

إنَّ مطاراً في الرّقة لا يعني بناءً من الإسمنت وحديد الطائرات، بل هو فعل اعتراف، فعل وصل، فعل انتماء.

هو رسالة تقول لأهل المدينة: أنتم منّا، ونحن منكم.

أنتم لستم فقط من يُنتج، ويزرع، ويصبر... بل أنتم من يحق له أن يرى العالم، وأن يعود إليه من دون تعب.

فهل سيبقى هذا السؤال معلّقاً في الهواء؟

أم أن مطار الرّقة سيُبنى، ويُكتب على جداره الأول: "من هنا تُقلع المدن التي قاومت النسيان".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.