صباحاتنا العربية على اختلاف جغرافياتها وطبائع ناسها، تكاد تلتقي عند نغمة واحدة؛ نغمة تُفتَح بها النوافذ على ضوء النهار، ويُسكب معها الفنجان الأول من القهوة، وتُستقبل بها ساعات العمل والدراسة واللقاءات الأولى.. إنه صوت فيروز هذه الظاهرة التي امتدت لعقود طويلة.. وهي بذلك لم تأتِ من فراغ، بل هي حصيلة تداخل عميق بين الذاكرة الجماعية والذائقة الفنية والطقوس اليومية، حتى بات صوت فيروز بمثابة جزء من طقس الصباح نفسه، لا ينفصل عنه ولا يكتمل بدونه، وهذا ما لا يدركه كثيرون يتعجّبون بين حين وآخر من هذه العلاقة واستمرارها مع تعاقب العصور والأجيال.. ولعل أول أسرار هذا الارتباط يكمن في طبيعة صوتها، ففيروز تملك صوتًا ليس عاليًا صاخبًا ولا خافتًا واهنًا، بل وسطًا متوازنًا يشبه ضوء الفجر حين يتسلل من خلف الجبال والبيوت، هو صوت يتسع للحنين ويحتمل الرجاء، صوت يُخاطب الداخل الإنساني بلطف، فيوقظ الروح من سباتها دون عنف، لهذا كان من الطبيعي أن يجد فيه الناس على اختلاف أعمارهم وتباين اهتماماتهم بداية مثالية ليوم جديد، وكأنهم يستعيرون من نبرته نعومة الانتقال من الليل إلى النهار، ثم إن أغنيات فيروز نفسها صيغت بروح الصباح، فالأخوان رحباني على سبيل المثال كتبا ولحّنا لها نصوصًا تتكئ على صور الطبيعة والضياء والندى والقرى النائمة على أطراف الجبال، ومن يستمع مثلًا إلى أغنيات تتحدث عن الطرقات، الأشجار، النوافذ المفتوحة، والطيور المغردة، يشعر أن هذه الصور ليست مجرد كلمات بل هي انعكاس حي لمشهد صباحي، ومع تكرار الاستماع، صارت تلك الأغنيات بمثابة إطار شعوري للصباح العربي، أشبه بخلفية موسيقية للذاكرة اليومية.. أما العامل الآخر في ارتباط صباحاتنا بفيروز فيعود إلى أن أغنيات فيروز كانت جزءًا من البث الإذاعي اليومي منذ منتصف القرن العشرين، ففي زمن كانت فيه الإذاعة المصدر الرئيس للخبر والموسيقى، كان صوت فيروز يسبق نشرات الأخبار، فيتسلل إلى البيوت والمقاهي والدكاكين، ويغدو حاضرًا في أذن الجميع قبل أن يبدأ ضجيج اليوم، هذا الحضور المتكرر عبر العقود رسّخ في الوعي الجمعي صورة ثابتة: فيروز تُغنّي، يعني أن الصباح قد بدأ، وهكذا انتقل الطقس من جيل إلى جيل، حتى صار موروثًا ثقافيًا متجدّدًا، لكن ما هو أعمق من كل ذلك يتمثل في أن صوت فيروز ذاته لم يرتبط بالزمن فقط، بل بالمعنى، ففي الصباح يحتاج الإنسان إلى ما يمدّه بالأمل والطمأنينة، إلى شيء يخفف عنه ثقل الحياة اليومية، وهكذا تفعل أغنيات فيروز، ببساطتها الشعرية وبُعدها الروحي، إذ تمنح المستمع هذا الشعور فهي ليست أغنيات احتفالية صاخبة، ولا حزينة غارقة في الأسى، بل توازن بين الوجد والفرح، بين الحلم والواقع، وكأنها تدعو السامع إلى أن يبدأ يومه بخطوة خفيفة، مطمئنّة، مهما كان ما ينتظره لاحقًا من تعب أو قلق، كما أن ارتباط فيروز بالصباح لا يمكن فصله عن رمزية لبنان نفسها، فقد صارت صورتها مرتبطة ببلد الجبل والبحر والصنوبر، بلدٍ ينهض من رماده في كل مرة، ويُصرّ على الحياة، هذه الرمزية عبرت الحدود، فتبنّاها المستمع العربي في المدن العربية، حتى غدت صباحات فيروز عربية الهوى، وليست لبنانية فقط، إننا حين نضع فنجان القهوة إلى جانب النافذة ونسمع أغنية لها، فإننا في الحقيقة نبحث عن استمرارية لشيء أكبر، عن إحساس بالانسجام مع العالم، وعن خيط رفيع من الطمأنينة يُرَتّب فوضى اليوم، لهذا السبب، لا ينافس صوت فيروز في الصباح أي صوت آخر، مهما تعددت المدارس الغنائية وتبدلت الأذواق، وتباينت الأجيال والثقافات، ولعل أجمل ما في هذا الطقس أنه جمعيّ وفرديّ في آن واحد، فكل واحد منّا يملك ذكرياته الخاصة مع صباحات فيروز؛ طالب يراجع دروسه على وقعها، موظف يتهيأ للخروج وهو يسمعها، ربّة بيت تعدّ الخبز والقهوة بينما ترافقها النغمة، لكننا مع ذلك نلتقي جميعًا في هذه اللحظة على شعور واحد، فنصبح وكأننا مجتمع صغير يُصغي في الوقت نفسه إلى النغمة نفسها بل ويكررها كل يوم دون ملل أو سأم.. فهي جزء من صباح يتكرر كل يوم ما دمنا أحياء ..!
في النهاية يمكن القول إن سر ارتباط صباحاتنا بأغنيات فيروز ليس مجرد عادة موسيقية، بل هو انعكاس لعلاقة الإنسان العربي بذاته وبنهاره الجديد، هو توق إلى البدايات الهادئة، إلى الضوء الذي لا يفاجئ ولا يرهق، إلى موسيقى تحترم الداخل الإنساني وتغذيه، لقد أصبحت فيروز، بصوتها وأغنياتها، نافذةً صباحية مفتوحة على أمل صغير يتجدد كل يوم، أمل يجعلنا نُصغي ونبتسم ثم نمضي لشؤوننا بعد أن استوفينا شجوننا .