: آخر تحديث
حين يصبح الاعتدال ستارًا لطمس الحقيقة!

مكر بعض "النخب" من السوريين

3
3
3

انطلاقًا من تبدّلات الاسم، يمكن رسم خطوط المأساة. إذ لم تكن تسمية "الجمهورية العربية المتحدة" تفصيلاً إداريًا أو ارتجالًا لفظيًا، بل تأسيسًا لبنية إقصاء ممنهجة، راحت تنسلّ إلى خلايا التعليم والشارع والسجلات الرسمية، كأن الأرض نفسها أُجبرت على خلع جلدها، لتُلبس ثوبًا لا يشبهها.

فلم يكن تغيير اسم "الجمهورية السورية" إلى "الجمهورية العربية المتحدة"، ثم إلى "الجمهورية العربية السورية" مجرد انخراط شكلي في مشروع وحدوي، بل افتتاحًا لحقبة لا تتسع لأكثر من لغة، ولا تحتمل أكثر من هوية. هكذا، وبجرة توقيع ناصرية ثم بعثية ثم بعثية أخوانية والآن: بعثية داعشية، بات يُطلب من الكردي أن يسكت عن لغته حتى في عقر بيته، أن يسمّي طفله باسم لا يُستنطق إلا بالعربية، وأن يدرس تاريخًا لا له فيه إلا دور "الضيف"، حتى وإن كان الأمر أمام ضيف مستضاف، في البيت أو خارجه!

تأسيسًا على ذلك، فإنَّ مكر بعض نخب السوريين لم ينشأ في الفراغ، بل نما في كنف تعريب مدرسي ممنهج، وتعريب قسري شامل للأرض والحجر والشجر، لأسماء قرى كانت تنطق بأسمائها منذ قرون، ثم وجدت نفسها ذات صباح موثقة في الخرائط الرسمية بأسماء لا تعرفها. إنها القرى التي اجتثّت من أرواح أهلها، لتصبح عناوين موالية لقرارات لجنة حزبية لا تعرف ما تعني "girê pirê" أو "Serê kaniyê"، لكنها تقرر أنها خطأ لا بد من تصحيحه.

من هنا، فإنَّ كل ادعاء بالمواطنة المتساوية يبدو حسن النية في الظاهر، لكنه يخفي تحت سطحه موافقة ضمنية على كل ما سبق. حين يقول قائل: "نحن مع حقوق الكرد كما نحن مع حقوق العرب والسريان والآشوريين"، فإنه ينسى – أو يتناسى – أنَّ السياق نفسه صيغ بلغة اختارت من البداية من يكون في المركز ومن يبقى في الهامش. فالمساواة لا تبدأ من الصفر، بل من تصحيح الموازين المختلّة، ولا يمكن لمجتمع تأسس على تعريب القسوة أن يدّعي التعدد من دون تفكيك تلك القسوة أولًا.

أجل، إنَّ المطالبة بالمواطنة الكاملة حق لا يُجادل فيه، لكن استخدامه كقفاز أبيض لتغطية وجه الإقصاء لا يصمد البتة أمام التفنيد. هؤلاء – الذين غدوا أبواق نفير وفتنة هم نخبويون بنَفَسٍ بعثي أو بريق قوموي مموّه – لا سيما من خبرناهم في محطات حياتية في المدرسة والشارع والعمل– يرفضون في العلن مشروع الفيدرالية، ويصفونه بالتقسيم، في الوقت الذي لا يرون في "المركزية العروبوية المتطيفة" أي استبداد أو مصادرة. يتحدثون عن الوطن الجامع، فيما هم حراس للهوية الواحدة، وللغة الواحدة، ولخريطة ثقافية أحادية الجانب، لا تعترف إلا بمن يذوب في لغتها وثوابتها.

وإنما نجد هنا تماثلاً غريبًا بين خطاب السلطة وخطاب من يدّعون مناهضتها، حيث يتفق الطرفان على أنَّ الكردي المقبول هو من لا يتكلم إلا العربية التي نحافظ على ما يربطنا بها، وبثقافتها، وتاريخنا المشترك لدرجة أنَّ كثيرين من كردنا في الشتات يوجهون أبناءهم لتعلمها. أجل حتى في مهاجرهم، وهنا، فأنا لا أعني كرد سوريا فحسب، بل كرد: بكور – كردستان إيران – إقليم كردستان، أيضاً، كلغة القرآن. وإحدى لغات تاريخ مشترك، ولا يطالب إلا بما تمنحه السلطة، بل يشكرها على ما تمنحه. أمَّا الكردي الذي يقول: "أريد أن أكون نفسي"، فيُوصم بالانفصال، ويُزج به في خانة الخطر، أو الحظر، وإعلان الحرب عليه، والتحريض والتشنيع عليه، ويُقدَّم على أنه مهدد للهوية الوطنية.

هكذا يُعاد إنتاج "الولاء" بأساليب أكثر نعومة، لكنها لا تقلّ قسوة. لا بأس أن تكون كرديًا، ما دمت لا ترفع صوتك. لا بأس أن تذكر قريتك باسمها الكردي، شرط ألا تكتبه في أية وثيقة. لا بأس أن تتكلم الكردية مع جدّتك، ولكن إياك أن تُدرّسها لابنتك، بينما الكردي يعلم ابنه وابنته طوعًا آيات القرآن، حتى وهو في مهجره، لا يحمل أي موقف من لغة شريكه المكاني، بل حريصًا على الرباط الجامع بينهما أينما حلّا، في الوطن أو في المغترب!

ها تمر عقود تلو عقود، ونتجاوز مئوية الشراكة ضمن الوطن السوري الذي بنى الرادة الكرد الأوائل أرومته وأسسه بحيادية وطنية، ويتحوّل المطلب الكردي في المقابل إلى شبه جريمة، والموقف إلى "خلل في الانتماء". وكل من يطالب بلغة رسمية موازية، وحتى ثانية، أو بإدارة محلية وفق شروط غير ما ابتدعه – الأسد الأب (1970 –2000) – في مناطقه، فإنه يعد خارجًا عن دائرة الخضوع التي رسمها بعض مثقفي ما بعد 2011، الذين قد يقولون لك ببرود: "لسنا ضدكم، لكن لا تفرطوا في مطالبكم"، كأن الوجود نفسه صار إفراطًا.

من هنا نرى كيف باتت شعارات "نحن سوريون فقط" تُستعمل سكينًا لقطع كل ما لا ينسجم مع تعريف بعثي للجمهورية. فالجمهورية التي احتضنت ملايين الكرد، لم تعترف بهم أبدًا إلا بوصفهم أرقامًا أو أدوات. لا يُذكر الكردي في إعلامهم إلا حين يُقتل، أو حين يُستعمل كورقة ضغط في مفاوضات. وإن طالب بحق، قيل له: "الوقت غير مناسب"، وإن صمت، تجاهلوه.

إنَّما المثير للسخرية، أن بعض من يتحدثون الآن عن "السورية الجامعة" كانوا قد بايعوا سابقًا رايات لا تعترف إلا بالعروبوية الإسلاموية، وطالما نادوا وينادون بـ"الوطن العربي الكبير"، بعيدًا عن شرامة أبناء المكان، تاريخيًا، إلا أنهم يتلونون متى اقتضت الحاجة. هؤلاء تحديدًا، هم الذين يطالبون اليوم بأن يُلغى أي تمايز كردي، وألا تُذكر كلمة "كردستان" إلا بصفتها خرافة انفصالية.

إذ يظهر التناقض في كل جملة يقولونها. يزعمون احترام التعدد، ثم يتهمون كل مشروع إداري كردي بالخيانة. المؤامرة. يمدحون الديمقراطية، ثم يصفون حتى تجربة الإدارة الذاتية بأنها دكتاتورية مقنّعة، وهي التي كنا من عداد من نقدوها لدواع عدة. يتحدثون عن حق تقرير المصير للشعوب الأخرى، لكنهم ينكرونه حين يكون الشعب كرديًا.

إنَّ الأمر لم يعد مجرد نزاع سياسي، بل هو امتناع مزمن عن الاعتراف بالآخر. كلما طالبت جهة كردية بحقوقها، شُحنت أبواق لإسكاتها، بدعوى أن "سوريا ليست دولة قوميات"، مع أن الكردي لم يطلب أكثر من أن يُعامل ككائن مكتمل، لا كظل باهت على جدار العروبية، لا العروبة المقدرة حقًا.

ولقد رأينا كيف أنه حين يُعقد مؤتمر للحوار، تُكتب الدعوات بلغة لا تعرف الكرد إلا كديكور. ويتكرر سيناريو الإقصاء، مرة باسم التوازن، ومرة باسم التوافق، ومرة لأن "المرحلة لا تحتمل". مصطلحات وتسويغات تتكرر كأنها نسخ من بيان صادر عن"القيادة القطرية" أو "القيادة القومية" أو" المحفل الداعشي"، بهدف إلغاء الوجود، ومصادرة الصوت الكردي لا الإصغاء إليه، كما تتطلب أعلى صور الوطنية الحقيقية.

من هنا فإنه لا بد من قولٍ واضح: الكذب لم يكن في التصريحات فقط، بل في البنية. البنية التي لم تتحمل فكرة أن يكون للكردي اسم لا يحتاج إلى ترجمة، ولا يُشطب من السجلات الرسمية. الكذب في مناهج التعليم، حيث اختفت الكردية كما اختفت جغرافيا الكرد، وظهرت أسماء المدن الكردية مسحوبة من النطق، موضوعة بين قوسين من الشطب.

الكذب في اللغة، في الإعلام، في وصف كل كردي لا يصطف مع مركزية دمشق بأنه مباع، متواطئ، خائن، أو داعية مشروع تقسيمي. الكذب في استخدام مفردات جميلة لإخفاء واقع بشع: كأن يقال "مواطنة" والمقصود بها مشروع التذويب، أو "وحدة وطنية" والمقصود بها: إسكات الآخر، أو "شراكة" والمقصود بها التبعية.

وحيث يستعر أوار الأزمة، وتظهر المشاريع الدولية والإقليمية، تزداد الكذبة سمكًا. فحتى الذين صمتوا طيلة عقود، صاروا اليوم يتكلمون باسم "الكرامة الوطنية"، بينما لا يعترفون لكردي بكرامة اسمه. حتى الذين كانوا أقرب إلى الفكر التقدمي، تراهم اليوم يعيدون إنتاج خطابات شوفينية، يساوون فيها بين الظالم والمظلوم، بحجة ألا يُفتح الباب للمزيد من التفكك.

لكنَّ السؤال الذي لا يجرؤ هؤلاء على طرحه هو: كيف يمكن أن نطالب الكردي بالصمت، وهو يرى قريته وقد صارت باسم مجرم أو سفاح أو جنرال بعثي وحتى مفكر خطط لإبادة الكرد؟ كيف نطالبه بالانتماء، ونحن ننكر عليه تاريخه وأغنياته وحكايات جدته؟ كيف نقول له "أنت منا"، ثم نمنعه من أن يكون هو؟

إذ إن هذا التواطؤ الثقافي لا يمكن أن يُغطّى بشعارات فضفاضة. لا يمكن لأي ادعاء بالانفتاح أن يصمد إن لم يعترف أولًا بأن البنية السورية، كما صيغت منذ الستينيات، كانت بُنيت على إنكار الآخر. وإن لم نبدأ من هذه الحقيقة، فإن كل حديث عن التعايش سيكون مجرد وهم، وكل مؤتمر للحوار سيكون استعراضًا للإنكار بصيغ جديدة.

من هنا نعيد التأكيد أن الكردي لا يطلب فضلًا ولا منّة. هو يطالب بحق واضح، من دون مرواغة أو انتهاك لحقوق سواه، في: أن يكون حاضرًا بلغته، باسمه، بمدينته، بمشروعه السياسي، بثقافته غير المترجمة. ألا يُطلب منه أن يكون عربيًا كي يُعدّ سوريًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.