"تنكشف الأخلاق في ساعة الشدة"
- أندريه موروا
غالباً ما يحتاج المَعني بفهم ظاهرة ما والإلمام بمعظم جوانبها إلى التحرك الفعلي من المكان وصرف الطاقة اللازمة لاقتطاع الزمان، إضافةً إلى هنيهات من إمعان النظر في الموضوع أو الشيء المراد بلوغ ناصيته، إلاَّ أن الإلمام بصميم صاحب ردات الفعل السريعة قد لا يحتاج إلى الدراسات المتعمقة، ولا يلزم الأمر العودة لتاريخ تلك الشخصية، ولا إلى البحث في أرضية الطفولة غير المتحركة لديه بتعبير غاستون باشلار، ولا حتى الاجتهاد العظيم من أجل التجول في دهاليز التخمينات المتعلقة به، ولا إلى الاستعانة بتعريفات بيير داكو ولا إلى آليات فرويد النفسية، ولا إلى خوض المغامرات معاً أو العيش في أجواء الكارثة سويةً، باعتبار أن مجمل هذه الشروط قد لا يكون التوصل إلى نتائجها بعد خوض التجربة المشتركة في متناول كل شخص، بل وثمة شروط وآليات هي من الصعوبة بمكان تحقيقها على أرض الواقع حين الطلب، بما أن بعض الوقائع الكبرى لا نقدر على صناعة ولو حتى الصور المصغرة عنها، وذلك بكونها تمّت أو تشكلت أو حدثت رغماً عنا وليس لنا أيَّ دور في مسارها، ولكننا بالمصادفة عشنا ظروفها.
بينما يكفي لمعرفة كُنه أشخاص معينين أن ندخل مع المرءِ تجربةً شخصية أو جماعية صغيرة جداً ليكشف لنا الكائن المرصود ما يخبئه، وما يفكر به، وما الذي يُشغله، وكيف يقارب المواضيع، ومتى يكشف أوراقه من دون الحاجة إلى الاستعانة بالحواجز والسيطرات أو إدخاله إلى حقل التجربة المباشرة أو الدخول معه في فضاء الامتحان، إنما يكفي أن تتعارض المنافع الشخصية بينكما أو تقوده إلى ساحة الهيجان حيال موضوعٍ يتعلق بنرجسيته فتعرف وقتها: كم أنت مدين لمفاهيم مثل المصلحة، الغضب، الاختلاف والحسد بكونها تختصر الطريق أمامك وتوفر لك الجهد والزمن.
عموماً ليس يسيراً للواحد منا بأن يضع شخصاً محدداً وقت الضرورة في المختبر الاجتماعي وعلى المحك حتى يتعرف إلى الطبقات الجوفية لديه كما هي بدون قشور أو اكسسوارات، بالمقابل هنالك قطاع كبير جداً من أبناء مجتمعاتنا لا يحتاج المرء معهم إلى الكثير من الأساليب والأدوات لكشف بنيانهم، إنما يكفي تبيان الاختلاف معهم في موضوع قومي أو ديني أو مذهبي حتى ترى الوجه الذي انتظرت رؤيته طويلاً وهو بكامل دمامته، أو وضعهم في السلطة بعض الوقت مع كل الامتيازات المرافقة للموقع، وقتها سيكشفون عن مكنوناتهم كما هي لا كما يريد واحدهم أن يُقدم نفسه ولا كما يرسم الغير صورته.
وعلى سبيل المثال فالمخطئ المتعجرف الذي يُكابر ولا يقبل الاعتذار ولا يرضى بأن يقر بغلطه ولا يتراجع عما صدر عنه، فلا يحتاج المرء لمعرفته إلى اللجوء لأيَّة آلية للتوصل إلى مربط شخصيته، بكونه أشبه بالطاغية الذي يرتكب جرماً صغيراً ولكنه بدل تصحيح المسار بعد مراجعة الذات ونقدها على ما بدر منها في السابق، ينتقل من الخطيئة الصغيرة والعادية جداً إلى المثالب الكبرى، وعوض التخلص من تبعات الجريمة الواحدة ينتقل إلى رحاب المجزرة.
أخيراً، باعتبار أن الكلام عن الحرية والديمقراطية والإنسانية متاح للجميع، لذا فحتى أكثر الناس قدرةً على القمع وممارسةً للاستبداد والإجرام قادر على أن يتلحف بتلك اليافطات القيمية، وبما أن التسلق أو العربشة على شجرة الثقافة والفن والأدب مشاعة ومتاحة أمام الكل ليتزيا أو يتبجح بها، وبما أن الجميع غدوا يلبسون نفس الهندام ويتداولون نفس العبارات في الأماكن العامة، لذا فلكي يميز المرء بين من هو حقيقةً يتمثل تلك العبارات التي يطلقها ويمارسها على أرض الواقع، وبين من يستخدمها كقناع أو كأدات للوصول إلى غايات وقتية، وحتى يقدر الواحد أن يفرق بين الثابت والطارئ، بين الحقيقي والمزيف، تبقى أفضل وأسرع طريقة لمعرفة جوهر الشخص وطريقة تفكيره وبنيته القيمية هي التعرض لمصالحه الشخصية أو إغضابه.