: آخر تحديث

دستور النحل…حين تُدير الكيمياء ما عجزت عنه الثورات

3
3
3

في قلب الطبيعة، حيث لا سلطة لأحد سوى الغريزة، يعيش النحل كائنًا صغيرًا لكنه يحمل في تكوينه فلسفة معقدة تكاد تتفوق على دساتير الأمم…!
النحل أكثر من مجرد حشرة تُنتج العسل وتطن فوق الأزهار، بل منظومة وجودية كاملة تسير بمنطق صارم لا يعرف التراخي، وتُدار بعقل جماعي لا يحتاج إلى ديمقراطية أو طغيان… بل إلى فيرومونات وولاء غريزي…!

حين نقترب من عالَمه، نكتشف أننا نحن البشر لسنا دائمًا الأكثر حكمة، النحلة العاملة تعرف أن لدغتها الأخيرة هي نهاية حياتها، ومع ذلك تُقدم عليه بلا تردد إذا شعرت أن الخلية مهددة، إنه انتحار مشفوع بالشرف، حيث الفرد يموت لتبقى الجماعة. نحن ندّعي الفداء، لكننا نحسب الخسائر قبل المبادئ، أما في ممالك النحل، الوطن لا يُناقش… يُحمى…!
ولذلك كان الفلسطيني الذي وقف عند الحاجز، يحمل حجرًا في مواجهة بندقية، ليس انتحاريًا كما وصفوه… بل نحلة فهمت أن التضحية لا تُقاس بعدد القتلى بل بديمومة الذاكرة.
الملكة لا تحكم بالتصفيق، بل بتركيبة كيميائية دقيقة تُفرزها، فيرومونات تجعل بقية النحلات عاجزات عن التمرد أو الإنجاب. إن العقل يُلغى لصالح النظام، والسلطة هنا ليست صراخًا ولا تحريضًا ولا إعلامًا… بل جزيء خفي يدير ولاءً مطلقًا. كم من الزعماء على هذه الأرض حلموا بفيرومونات كهذه، تجعلهم ينجحون بلا جهد، وكم من الشعوب استجابت لتلك الكيمياء وإن كانت على شكل خطاب أو نشيد وطني؟

تمامًا كما حدث في كوريا الشمالية، حين بكى الجنود بصدق أمام موكب (كيم جونغ)، لا لأنهم يعرفونه… بل لأنهم تنفسوا نظامًا حوّلهم إلى خلايا كيميائية تدين بالولاء لحضوره، لا لقراراته.
ذكور النحل لا يُطلب منهم العمل أو الحماية. وظيفتهم الوحيدة هي التزاوج مع الملكة، وإن لم ينجحوا في المهمة، يُطردون عند أول شتاء. لا رحمة، لا استثناءات. قيمة الفرد في الإنجاز، لا في حضوره البيولوجي. في خلايانا السياسية، كم من الذكور يتنعمون بالدفء بلا وظيفة؟ كم من غير المنتجين يعيشون على أكتاف الجهد الجماعي دون نفع؟
وهذا ما رأيناه في العراق بعد 2003، حين انتفخت الطبقة السياسية برجال لم يُنجزوا شيئًا سوى الجلوس، والقرار الوحيد الذي اتخذوه هو توقيع الرواتب لأنفسهم، بينما تنهار البنية التحتية وتتفسخ الخلية.

النحل يرى الألوان التي لا نراها. بصره مبرمج لالتقاط الأشعة فوق البنفسجية، فيرى علامات على الزهور توجهه إلى الرحيق مباشرة. نحن نعيش في وهم الرؤية الكاملة، لكننا في الحقيقة نرى أقل مما نعتقد. النحل لا يُخدع بالسطح… أما نحن فنتبع السراب.
كما في لحظة (الربيع العربي) حيث هرع الملايين خلف بريق التغيير، غير مدركين أن الزهرة الجميلة كانت فخًا مفخخًا، وأن الأشعة فوق البنفسجية في المشهد كانت محجوبة عن عيونهم عمدًا.
حين تعود النحلة إلى خليتها بعد العثور على مصدر رحيق، لا تثرثر، بل ترقص. رقصة دقيقة تتحدث عن الاتجاه والمسافة والكمية. هي لغة بلا كلمات، لكنها أكثر فاعلية من ألف تصريح سياسي. النحل لا يُمارس (النفاق اللغوي) بل يُترجم المعلومة إلى فعل. كم من مؤسساتنا تتقن الرقص بلا نتائج، وتضيع في الكلام حتى يفوت الرحيق؟

كما تفعل الأمم المتحدة، حين تتحدث يومًا عن حقوق الإنسان، ويومًا عن الأزمة السورية، دون أن يتحرك شيء في الاتجاه الصحيح. رقصة بلا عسل، وصوت بلا إحداثيات.

المستعمرة بدون ملكة تتحول سريعًا إلى فوضى. العاملات يبدأن بوضع بيض غير مخصب، ينتج عنه ذكور لا دور لهم. النظام ينهار من الداخل دون قيادة خصبة، دون فكرة مركزية. في السياسة، الملكة ليست فردًا، بل رمز التوازن. حين تفقد الأمم رموزها الجامعة، تتكاثر فيها الفوضى وتتناسل الذكور المجردون من الرؤية، حتى لو بدوا أنيقين في منابرهم.

كما في ليبيا، حين غاب القذافي عن المشهد، فسقط النظام معه، لا لأنه كان عظيمًا… بل لأنه لم يترك وراءه أي توازن يمكن أن يُركن إليه. كل البيض أصبح غير مخصب، وكل ذكرٍ أصبح مشروع خراب.

الملكة لا تولد ملكة. هي بيضة عادية، لكن غذاءها يحدد مصيرها. من تُطعَم الهلام الملكي، تُصبح ملكة. الاختيار في النحل ليس بالوراثة، بل بالتغذية الفكرية. كم من مواطن حُرم من (الهلام المعرفي) فمات عاملاً وهو يملك جينات القيادة؟ وكم من القادة أُطعموا هلام السلطة فصاروا قادة بلا تفويض شعبي؟
كما حدث في الكثير من الجمهوريات العربية التي تحولت وراثيًا، حيث جرى (إعداد) الأبناء للحكم وهم بعد في الحضانة، بينما نُفيت آلاف العقول الفذة إلى الشتات لأن أحدًا لم يطعمها المعرفة.
تصنع النحلات خلايا سداسية دقيقة تُبهر المهندسين. سداسية الشكل لأنها الأكثر كفاءة، أقل هدراً، وأعلى تخزينًا. الطبيعة تفرض قوانينها، والنحل يطيعها دون خرق. أما نحن، فنقيم مباني عشوائية، ونشيد مؤسسات مربعة عاجزة عن استيعاب دوائر الواقع. هندسة النحل لا تعترف بالفوضى… أما نحن فنجعل من الفوضى هندسة.

كما حدث في لبنان، حيث النظام الطائفي بُني على شكل هندسي لا يُفسر، لا هو سداسي ولا هو بيضاوي، بل متاهة تشبه عش الدبابير أكثر من خلية نحل.
حين تضعف الملكة أو تعجز عن الإنجاب، لا تُقتل، بل تُعزل بهدوء. العاملات يتجاهلنها، يتركنها تذبل، ويربين ملكة بديلة. إنه انتقال سلس للسلطة، بذكاء فطري، دون انقلابات أو دماء. كم من أنظمتنا السياسية فشلت في هذا الدرس البسيط: أن القيادة ليست أبدية، وأن الكرامة في الخروج قد تكون أهم من الكبرياء في البقاء؟

ولذلك حين أعلن (نلسون مانديلا) اعتزاله، ارتفعت قيمته أكثر، لأنه خرج بإرادته، وترك خلفه مملكة لا تحتاج للفيتامينات الاصطناعية لتبقى.
النحلة لا تؤدي وظيفة واحدة. في عمرها القصير، تمر بعدة مهام: من تنظيف الخلية، إلى رعاية الصغار، إلى الحراسة، ثم جمع الرحيق. وظيفة الفرد تتغير حسب عمره وقدرته، لا حسب لقبه. النحل يُعيد تعريف فكرة (العمل): أنت تفعل ما تقدر عليه، لا ما تحب. كم من بشر سُجنوا في وظيفة واحدة لأن النظام لا يعترف بالتحول؟ وكم من مؤسسات جمدت لأنها لا تفهم أن الموهبة تمر بمراحل؟

كما في الأجهزة البيروقراطية في بعض الدول العربية، حيث موظف عمره ستون عامًا ما زال يكتب التقارير ذاتها التي كتبها حين كان في العشرين، لا لأنه بارع… بل لأن أحدًا لم يلاحظ أن العمر يُغير الوظيفة.

النحل لا يثور، لا يفاوض، لا يبرر. لكنه ينجو… ويتكاثر… ويُنتج. هو مرآتنا الصامتة. وربما، لو تأملنا خلاياه كما نُمعن في شاشاتنا، لتعلمنا أن الحكم ليس سلطة، بل هندسة؛ وأن الجماعة ليست جموعًا، بل كائنًا متماسكًا تُديره الكيمياء… لا الخطب.

وحين نقول (كما النحل) لا نقصد أن نكون عبيدًا للنظام، بل أن نصنع نظامًا لا يحتاج عبيدًا…!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.