: آخر تحديث

في سوريا.. الفرات مرثية نهر يتداعى!

3
3
2

كان نهر الفراتُ، مذ وُلدت الحكاية على ضفافه، مجرى للخصب ومهداً للأبدية. نهرٌ رافق الخطو البشري منذ أن خطّت الحضارات أنفاسها الأولى على الطين. هناك، حيث اهتزّت الأرض فرحًا بزهر القمح والقطن، وارتفعت السنابل كأصابع صلاة، كان الفرات، بعينين من ماء، يُحسن الإصغاء إلى تعب الفلاحين، ويُهدهد القرى كل مساء بنشيدٍ لا يُكتب، بل يُسمع في لهاث النواعير ونقيق الضفادع ورفيف القصب.

واليوم، في الشمال الشرقي من سوريا، يجفّ الصوت. النهر لم يعد نهراً، بل شقّاً نازفاً في الجغرافيا والوجدان. لم تعد الأرض ترتوي، ولا السماء تبكي. كل شيء متخشّب كجذوع الزيتون القديمة التي تشهد الآن على زمن الغياب الكبير.

منسوب الفرات ينحسر، كما تنحسر الثقة بالحياة. من 500 متر مكعب في الثانية إلى 200 فقط، وكأنّ النهر يُعاقَب على فيضانه القديم. الهبوط الكبير في بحيرة سد الفرات ـ ذلك القلب الاصطناعي الذي طالما ضخّ ماءً وكهرباءً في عروق الشمال ـ كشف ليس فقط القاع، بل هشاشة البنية التي شُيّدت على هذا الشريان.

الكهرباء، التي كانت امتداداً لنبض الفرات، انحسرت بدورها، واقتصرت على سويعات هزيلة لا تكفي لتدفئة بيت، ولا لإنارة طريق. توقفت المضخات، سكتت المولدات، وانكمشت الحياة. ما عاد الماء يصل إلى الحقول، وما عادت السنابل تقف ببهائها المعهود. الأرض، التي عرفت أسماء كل من مرّ عليها، باتت أرضًا لا تلد.

الرقة، دير الزور، وسواهما من القرى المترامية على ظهر الفرات، كانت لسنين طويلة هي سلال البلاد. الذرة، القطن، القمح، السمسم... لم تكن مجرد محاصيل، بل منظومة حياة. ومع انخفاض المياه، تقلّصت المساحات المزروعة بنحو الثلث. التربة، التي اعتادت ندى الفجر وعرق المزارعين، صارت قاحلة، متملحة، كأنها تحتجّ على الخذلان. آلاف الهكتارات باتت بوراً، لا ترويها لا السماء ولا الدولة.

ومن هنا بدأت الحكاية الثانية: ارتفاع الأسعار. فالفقر حين الجوع، يتحوّل إلى قسوة. الخبز، الذي كان أبسط ما يُطلب، بات ترفاً. والخضار، التي نمت ذات يوم على ضوء الشمس وماء الفرات، صارت نادرة، شحيحة، كأنها قصص من الماضي.

لكنّ المأساة لم تقف عند حدود الزرع. الفرات كان أيضاً مورداً أساسياً للشرب والغسيل والاستحمام. ومع تراجع مياهه وتلوّثها، اجتاحت الأمراض الأجساد، كما يجتاح القحط الحقول. الكوليرا، التي ظُنّ أنها رحلت مع القرن الماضي، عادت تمشي بين البيوت، تطرق الأبواب بصمتٍ قاتل. التيفوئيد، الالتهابات الجلدية، مشاكل التنفّس، كلها عادت لتتربّع على صدور الناس المنهكين في المخيمات.

الصرف الصحي، كعادة الأزمات، كان أول الغائبين. الأنابيب التي تنقل الأذى لا تعرف إلى أين تذهب. وغياب الرقابة، وضعف البنية الطبية، جعلا من الماء تربة خصبة للأوبئة، في مفارقة مأساوية: أن يصبح ما يُفترض أن يحيي، قاتلاً صامتاً.

لم يكن العطش يوماً حافزاً للهجرة، كما هو الآن. ما عادت الحرب وحدها سبب الرحيل. قرى بأكملها هجرت النهر، كما يهجر العشّاق مَن خان. الريف الغني الذي كان يوماً مكتفياً بذاته، بات خالياً من روحه وسكانه. الهجرة هنا ليست هروباً من الخوف، بل من اللاجدوى. من الصنابير التي تصدر صوتاً لا ماء فيه، ومن ليلٍ لا تُشعل فيه شمعة، ومن تراب لا يُثمر.

الحياة المائية، التي كانت ذات زمن تعجّ بالأسماك، أصبحت الآن ظلالاً في الذاكرة. أنواع اختفت، كأنها ما كانت. ارتفاع درجات الحرارة، تراجع المياه، تلوّث المجاري... كلها شاركت في هذه الجريمة البطيئة. لم تعد البحيرات مكانًا للتنزه أو الصيد، بل مستنقعات للرائحة والعفن، وأوكاراً للبعوض والحشرات.

حتى الحيوانات البرية لم تنجُ. الماشية تموت عطشاً أو جوعاً. الأعلاف لم تعد تُزرع، والماء لم يعد يُسكب في الأحواض. الرعاة يبيعون قطعانهم بأسعار زهيدة، أو يذبحونها ويحتفظون بلحمها في أقبية لا كهرباء فيها.

لكنَّ هذه الأزمة ليست مجرد كارثة بيئية. الماء، في هذا السياق، لم يعد مورداً طبيعياً، بل سلاحاً سياسياً. هناك من يضبط تدفّق النهر من المنبع، ويترك المصبّ يختنق. الاتهامات متبادلة، لكن المؤشرات واضحة: انخفاض بنسبة 60 بالمئة في المعدلات الطبيعية ليس عابراً، بل متعمّد، محسوب، وموجّه.

سدودٌ عملاقة في تركيا، مثل أتاتورك وبيراجيك، تقرر كم يشرب السوري، ومتى يزرع العراقي. النهر لم يعد حراً. صار قيداً إضافياً في خريطة الجيوبوليتيك المعقّدة، حيث يُستخدم الماء كما يُستخدم النفط، وكما تُستخدم الحدود: وسيلة ضغط، لا وسيلة حياة.

في شوارع الرّقة، لا تسمع ضجيجاً. الناس تمشي وكأنها تحلم. الأعمدة لا تضيء، النوافذ لا تُفتح. المخابز تقفل أبوابها باكراً، والمراكز الصحية تعمل على ضوء الشموع. المدارس تكتفي بحصص مختزلة، والطلاب يكتبون بأيدٍ متعرّقة من الحر. التكييف أصبح من الماضي، كما الحنين.

البيوت، التي كانت تأنس بحفيف أشجارها وأصوات أطفالها، باتت صامتة. حتى الأغاني اختفت من المقاهي. الحكايات الآن تدور حول البحث عن برميل ماء، أو ساعة كهرباء، أو دواء لا يُباع في السوق السوداء.

المشهد لا يبشّر. لا قدرة محلية على معالجة الكارثة، ولا تنسيق إقليمي يلوح في الأفق. لا خطط طارئة، ولا دعم دولي جاد. الناس تنتظر المطر، كأنها في زمن ما قبل الدولة. تنتظر أن يُعاد توزيع الحصص، أن تُفتح بوابات السدود، أن يزورهم مبعوث أممي يحمل خريطة للمستقبل.

الفرات، الذي كان مجرى حضارات، صار مقبرة لها. في انتظار المعجزة، لا يملك الناس سوى الصبر. وفي عيونهم، عتاب لا يُقال، ولا يُنسى.

هكذا، يتحوّل النهر الذي علّم الناس الزراعة، واللغة، والدفء، إلى مرآة للخذلان الكبير. لا يكتفي بالانسحاب، بل يترك في المكان صرخةً مكتومة، ووجعاً بلا اسم. النهر الذي كان يُغنّى له، ويُحتفى به، صار موضوعاً للموت البطيء.

أمام هذا كله، لا يبدو الانهيار طبيعياً فقط، بل وجودياً. أزمة الفرات ليست أزمة مياه فحسب، بل أزمة هوية، وذاكرة، وحق في الحياة. كل قطرة تنقص، هي خطوة نحو العدم.

الفرات يُنادي... فهل من يُصغي؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.