في لحظة ظاهرها عفوي وباطنها مليء بالحسابات، أطلق وزير الخارجية الروسي خلال لقائه بوفد وزارة الخارجية السعودية تهنئة خاصة للهلال السعودي بعد فوزه على مانشستر. كثيرون رأوا فيها مجرد لفتة لطيفة أو مجاملة عابرة، لكن الحقيقة أبعد بكثير من سطح العبارة. لأن السياسة الحديثة لم تعد تدور فقط في أروقة المؤسسات ولا تنحصر في البيانات الرسمية، بل أصبحت تتقن استخدام لغة الناس، ومفرداتهم، ورموزهم التي تسكن وجدانهم.
حين نحلل هذه الحادثة بعمق، ندرك أنَّ الوزير الروسي لم يكن يقصد الهلال بذاته حباً في كرة القدم أو ولاءً لنادٍ بعينه، بل كان يمارس نوعاً من الدبلوماسية التي تتسلل إلى الشعوب من خلال ما يحبون ويشعرون تجاهه بالفخر والانتماء. فقد اختار رمزاً له حضور قوي في وجدان كثير من السعوديين، ليرسل من خلاله رسالة أوسع وأعمق تقول إن روسيا قادرة على مخاطبة الناس بلغتهم، وعلى الوقوف في مساحة قريبة من مشاعرهم، بعيداً عن برود الخطاب السياسي التقليدي.
إنَّ هذا النوع من الخطاب ليس وليد الصدفة ولا ارتجال اللحظة، بل هو أسلوب محسوب يُستخدم في السياسة الدولية لصناعة صورة ذهنية جديدة، تتجاوز المفاهيم النمطية التي قد يحملها الناس عن دولة معينة، وتفتح الباب لتأسيس علاقات تتجاوز الحكومات لتصل مباشرة إلى قلوب الجماهير. لأن الشعوب حين ترى مسؤولاً أجنبياً يشاركهم اهتماماً صغيراً في نظرهم لكنه كبير في نفوسهم، يشعرون نحوه بنوع من القرب الإنساني، وتنهار بعض الجدران النفسية التي ربما تبنيها السياسة بين الدول.
ومن هنا تكمن أهمية أن يلتفت الدبلوماسيون السعوديون والعاملون في حقول السياسة الخارجية إلى هذه التفاصيل الدقيقة. فليس كافياً أن نحفظ قواعد البروتوكول أو أن نعرف ملفات العلاقات الثنائية، بل يجب أن نعرف كذلك ماذا يحب الناس في تلك البلدان التي نذهب إليها، وما هي رموزهم، وما الذي يثير مشاعرهم أو يفخرون به، حتى نستخدم تلك المفردات بوصفها جسوراً تربطنا بهم وتخلق مساحة مشتركة تتسع للكثير من الرسائل العميقة دون أن تُقال مباشرة.
ما فعله الوزير الروسي درس ثمين لكل من يعمل في الحقل الدبلوماسي، لأنه يوضح كيف أن عبارة قصيرة قد تكون أقوى من بيان طويل، وكيف أن ذكر فريق رياضي قد يحقق ما لا تحققه عشرات اللقاءات الرسمية. إنها دعوة صريحة لأن نفكر دائماً في تفاصيل الخطاب، لا بوصفها كماليات، بل لأنها قد تكون هي المفتاح الحقيقي لصناعة صورة بلدنا، وللوصول إلى الشعوب، وكسب احترامهم ومودتهم، وإظهار أننا نفهمهم ونعرف كيف نخاطبهم بلغتهم الخاصة.
وفي زمن أصبح فيه الإعلام سريعاً، والجماهير متصلة على مدار الساعة، لم يعد هناك ما يسمى "تفاصيل صغيرة"، بل كل إشارة محسوبة، وكل كلمة قد تتحوّل إلى عنوان تتناقله القنوات والصحف ومواقع التواصل، وتبني عليها الجماهير انطباعاتها. وحين نرى كيف تلقف الإعلام السعودي والعربي تلك التهنئة الروسية وتداولها المؤثرون والجماهير، ندرك أن أثر هذا الأسلوب لا يقف عند حدود اللحظة، بل يظل حياً في الذاكرة الجماعية، ويبقى شاهداً على أن السياسة اليوم تتحدث أحياناً بلغة غير مكتوبة في كتب الدبلوماسية التقليدية، لكنها تُحدث أثراً لا يمكن إنكاره.
إنَّ تهنئة وزير الخارجية الروسي للهلال ليست مجرد مجاملة، بل هي رسالة موجهة إلى الشعب السعودي تقول فيها روسيا: نحن نعرفكم أكثر مما تظنون، ونحن نتابع ما يفرحكم، ونسعى أن نكون قريبين منكم. وهي أيضاً دعوة مفتوحة للدبلوماسية السعودية لأن تستخدم نفس الأسلوب، فتتحدث إلى شعوب العالم من خلال رموزهم وأحلامهم وهواياتهم، وتصنع لنفسها حضوراً إنسانياً يسبق أي حوار سياسي أو اقتصادي. لأن في السياسة الحديثة، من يملك مفاتيح قلوب الناس، يملك الكثير من مفاتيح المستقبل.