: آخر تحديث

شيطان شايف نفسه

3
2
3

علي بن محمد الرباعي

كثيراً ما تحدّث النفس الشيطانيّة صاحبها بأنه معدن نادر، وطراز فريد بين الناس؛ وربما توهّم أنه بلغ ذروة العلا، علماً ومعرفةً ومكانة وخبرة حياة؛ وقدرةً على تفادي المصاعب والمتاعب وتخطي التحديات والعقبات، والقفز بأمان على بؤر وأفخاخ وشِراك منصوبة على قوارع الطرق، ومن يدّعي ذلك، ينفضح أمره وينكشف جهله في أول منعطف المواقف الصعبة؛ ومفاجأة الظروف، ناهيك عن صدمات الأقدار التي تُخلّ بنفسيته، أو تشيطنه أكثر.

وبعودتنا للنص القرآني، نتيقّن بأن الشيطان كان شايف نفسه على الملائكة، ثم على آدم عليه السلام، وهو أول من قال (أنا خير منه)، لكن موقف البشريّة من إبليس ليس واحداً، فهناك من يخامره إعجاب بالشيطان والشيطنة، ومن شعراء الرفض أمل دنقل الذي قال (المجد للشيطان معبود الرياح، مَن قال «لا» في وَجْه مَن قال «نعمْ»، مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ، وقال «لا» فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ)، وربما تفوّق بعض الأوادم على (أبو مُرّة) في الأذيّة والتطاول والغرور، خصوصاً من يعلم أنّ تاريخ أسلافه أسود؛ فيلجأ للتشيطن، لينتقم للأسلاف، بمحاولة تبييض التاريخ الأسود.

وللشيطنة صور شتى؛ فهناك من يتشيطن تحت عباءة الدِّين، وهناك شياطين في ثياب مثقفين، وسياسيين، ورجال مال وأعمال، وغلابة؛ كما أن الشيطنة مدارس؛ ولكل مدرسة منهج ومقررات، وأساتذة وطلاب، ونشاط منهجي ولا صفّي، وتحتفل في كل موسم بالخريجين والخريجات، وتوزع جوائز وشهادات تميّز على المبرّزين.

وإذا كانت للشيطان الأول صورة ذهنية واحدة، فإن للشياطين البشريّة المتوالية أشكالاً وأحجاماً وألواناً، ومقاسات، ومواقف وخطابات تناسب الحال والمقام؛ فالحلزوني يجيد الالتفاف، والمطاطي قابل للتشكّل بحسب ما يقتضيه الموقف والمصلحة، والأخطبوطي يجيد التسلّق لأوعر التضاريس، وفي أصعب المناخات، والحربائي ماهر في التلوّن باللون الذي يهواه عاشق الحربائيين، والنفعي يناور ويقامر دون وجل من ردود الأفعال.

ونجاح الشيطان معرفيّاً لم يمنحه نجاحاً سلوكياً ولم يشفع له أخلاقياً، وهو وإن لم يثنه فشله، عن التراجع، مستنكف عن مراجعة حساباته، ويرفض تقييم وتقويم أخطائه، متذرعاً بأنه لا يزال يجد قبولاً وحاجة للتواجد، وربما يتقاطع البعض مع الشيطان في شيطنته، ومنهم من يبرر لنفسه ما يقترف من الأخطاء، ويفخر بالمنجزات السلبية.

وبما أن معيار الإنسان الخيّر ليس بما يجمع من مكاسب، وما يتبوأ من مناصب، ولا ما يحوز من مناقب، ولا ما يمتلك من مال، وجاه ؛ بل المعيار أخلاقي، إذاً الترقي في مدارج المبدعين والمميزين رهن اكتشاف دائم للضعف والقصور، والجهل، فيحرص على تحصين روحه من التشيطن، لإدراكه أن الإساءة والتطاول والأذى والظلم مذمّة عند العقلاء؛ ومنافية لأدب وتعاليم الأديان والحضارات؛ ولعنة تنصب على الشيطان من السماوات.

لم أجد أوضح من صورة الشيطان لضرب المثل، فهو على ما مُنح من مهلة، وما ظفر به من تسليط بالوسوسة، وما حاز من مهارة تزيين الباطل للآدمي واحتناك الذريّة إلا أنه لا ينجح، فهناك ملايين إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، ولو يدّعي الشيطان أنّ لديه من الوعي ما يفوق به الأنام، إلا أنّه بليد وضعيف، وواهم معرفياً، وواطئ سلوكيّاً ومنحط أخلاقياً، وفوق كل ذلك لديه كبر وشايف نفسه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد