: آخر تحديث

القوة المجهولة

2
2
2

مكامن القوة في الدول متعددة، وتأتي على رأسها القوة العسكرية التي تكون واضحة للعيان بحكم رؤية جنودها وعتادها، واستعراض جيشها ليرى الخصوم ما وصلت إليه هذه القوة، ثم تأتي القوة الاقتصادية التي تدعم القوة العسكرية وتمهد الطريق أمامها، فالاستعمار في الشرق الأقصى بدأ من خلال شركة الهند الشرقية التي مهدت لاستعمار الفلبين وتايلاند وغيرهما من دول الشرق الأقصى.

ثم تأتي القوة الدبلوماسية، وهذه القوة في الأساس تعتمد على القوة العسكرية والاقتصادية؛ فمن خلال هاتين القوتين تستمد الدبلوماسية قوتها وتفرض شروطها على الخصوم؛ فالقوة العسكرية في الأساس هدفها تحقيق أهداف الدبلوماسيين في بلدها، ثم هناك القوة الناعمة التي تتمثل في الفنون والأدب والشعر والرياضة، فقد نعرف بلداً من خلال بروز أديب فيه، فنحن نعرف بعض أدباء أميركا الجنوبية ومفكريها وقد لا نعرف بلدانهم معرفة تامة، وتعرفنا على البرازيل من خلال كرة القدم قبل أن نعرف رئيسها، فالقوة الناعمة المتمثلة في الإعلام وغيره مهمة جداً للدول، والدول تصرف عليها مبالغ طائلة لتحقق أهدافها، وقد تستثمر الدول في القوة الناعمة من خلال الإنفاق على هذه القوة ولو بالتعاقد مع دُور العلاقات العامة لتحسين صورة الدولة لدى الغير.

أزعم أن في دولنا العربية قوة مجهولة لم نستفد منها تتمثل في الذين يعملون في الدول العربية أو السياح الذين يقصدون زيارة الدول العربية، وهذه القوة غير مُكْلفة اقتصادياً، إذ إنها تأتي بتأشيرة سياحة أو تأشيرة عمل، وحين مغادرتها البلاد فإنها تنشر صورة حسنة أو سيئة عن البلد الذي غادرته.

لقد مررت خلال الأسابيع الماضية بألم في العين واضطررت إلى أن أذهب إلى طوارئ المستشفى العام بمدينة ساوثهامبتون في بريطانيا، وكان أول من قابلني ممرض فلبيني، وبدأني بالتحية باللغة العربية، ثم أحضر لي كوباً من القهوة فظننت أنه قد دفع ثمن هذا الكوب، فأردت أن أدفع له، فرفض وقال إن هذا من المستشفى، ثم أحضر لي قطعاً من البسكويت، وقد كنت الوحيد من بين المرضى الذي أُحضِرَ له كوب من القهوة، فقال لي إنه عمل في السعودية وإنه يحمل ذكرى جميلة عن السعودية لذلك أكرمني، وبعد فترة عاد إليَّ وقال: «إن عملي ينتهي الساعة 7:30 صباحاً، فإذا أردت أي شيء فأخبرني قبل أن ينتهي عملي»، شكرته وبعدها أُحلت إلى قسم العيون داخل المستشفى؛ لصعوبة الحالة، وجدت الطبيب المصري محمد، ما شاء الله، وبعد الفحص أحالني إلى إخصائي الليزر، محمد دقاق، الذي أكمل اللازم، وعند مغادرتي تبعني وقال لي إنه عمل أربع سنوات في جدة ومثلها في الرياض، وإنه حينما يرى السعوديين يعتبرهم أهله. عرفت أن السعوديين تركوا انطباعاً رائعاً لديه.

في 8 أغسطس (آب) الحالي احتجت إلى عملية أخرى أجراها الطبيب نفسه. في غرفة الفحص المبدئي وقبل الدخول إلى العملية كان هناك ممرضون فلبينيون عملوا في السعودية ويحملون انطباعاً إيجابياً عنها ويتحدثون العربية، سألت الممرض الذي عمل في مستشفى الملك فيصل التخصصي لمدة 12 عاماً: أيهما أفضل؛ السعودية أم بريطانيا؟ وكنت أقصد العلاج الطبي، فأجابني: السعودية أفضل، ولم أعرف إن كان يقصد الحياة أم الطب، المهم دخلت غرفة العمليات، وقبل التخدير الموضعي بدأ طاقم الممرضين يتحدث معي، لأجد أن معظم من حولي قد عمل في السعودية، ومنهم ممرضة هندية عملت بالسعودية في بلدة تَربة.

انتهت العملية لتأتي الممرضة البريطانية التي ستصحبني إلى الإنعاش لتمازحني قائلةً إنني حينما دخلت غرفة العمليات سمعت لغة غير الإنجليزية. بالطبع هي تعرف أنها اللغة العربية، ولكن ما أثار استغرابها أن جميع الطاقم الطبي يتحدثون العربية أو بعض كلماتها فيما عدا الاستشاري الذي كان مشرفاً على إجراء العملية، حيث كان لا يتحدث سوى الإنجليزية.

هذه القوة المجهولة يجب علينا في الدول العربية الاستفادة منها عبر إحسان التعامل مع من يعملون لدينا أو يزورون بلداننا للسياحة، لأنهم يمثلون قوة محايدة تنشر انطباعاً جيداً عن بلداننا، فبدلاً من أن نصرف ملايين الدولارات لتحسين صورة بلداننا، فإن هذه القوة تنشر سمعة طيبة عن بلداننا وبالمجان، لنوفر على اقتصادنا مصاريف العلاقات العامة وننفقها في المشاريع المنتجة. ودمتم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد